هل نكتب لنشعلَ بكلماتنا ومشاعرنا شموعَ الأمل في ليل أُمَّتنا الحالك الطويل؟ هل نحاول - حين نحلِّق بعيدًا بصورنا وخيالاتنا للهروب من سجن الجسد؟ هل نكتب رغبة في الخلود؟ هل نتخيَّل كلماتنا سيفًا يبارز في معركة أو رمحًا يسابق الرِّيح أو سهمًا يودِّع كبدَ القوس مشتاقا إلى هدفه؟
نكتب أحيانًا تألُّمًا وشكوى مما يثور في بلادنا ويمزق أعماق وِجداننا، نكتب لمن لا قلمَ له ولا صوت، نكتب للتنفيس وإراحة لضمائرنا المثقلة نكتب لأننا أنانيون نحبُّ ذَواتنا المتضخِّمة كثيرًا، ونعلن هذا الحبَّ على الملأ بلا خوف ولا خجلٍ، نكتب إقرارًا بجهْلنا، ولنبحثَ عن قبَس هداية ونارٍ دافئة، نكتب لنغازل الفرح ونُراقص الأمل، نكتب توجُّعًا للأندلس المفقود، وحِدادًا على سقوط العراق وليبيا ولبنان واليمن والسودان وتونس وسوريا في لهيب السياسة والفتن التي تحرقها كل يوم مرة بعد مرَّة .
لو كان الروائي العبقري غسان كنفاني، قائدا سياسيا فلسطينيا فقط، لأوشك اسمه على الغروب والغياب، لكن اسمه اليوم، أكثر حضورا من اسم معلمه جورج حبش .
ولو ظل المبدع المغربي الدكتور أحمد المديني، أستاذا أو قائدا سياسيا فقط، لكان اسمه اليوم محفوظا في القرص المدمج الخاص بأرشيف المناضلين المحترمين .
وهذا ينطبق على الدكتور محمد عبده غانم والشاعر لطفي جعفر امان والمحامي والأديب محمد علي لقمان رائد حركة التنوير في عدن وعلى الصحفي المبدع عميد جريدة الأيام الأستاذ محمد علي باشراحيل . ولو ظل الشعراء حميد سعيد وسامي مهدي ومظفر النواب وسعدي يوسف، مناضلين بعثيين وشيوعيين، لا شعراء معدودين، لطواهم النسيان والزمان !!
وهكذا هو حال محمود السمرة وخالد الكركي وإبراهيم خليل وسالم النحاس لو لم يمسكوا القلم لطواهم العدم .
كانت المرجعية الأولى لنا، نحن قراء الستينات ، مجلة الآداب الشهرية اللبنانية التي أسسها الروائي الدكتور سهيل إدريس في الخمسينات .
كانت المجلة تفتح أبوابا عدة مثل: خدمة القراء، والنتاج الجديد، ومع الأدباء والمفكرين، وكتاب الشهر، والآداب تستفتي
وأسهم انتشار مجلة الآداب في اعلاء وإذكاء الروح القومية، فقد كرست أن من متطلبات نجاح الكاتب العربي، أن يكون عروبيا تقدميا تماهيا مع الزخم القومي والعروبي في تلك الفترة !!
ويقول أحد الكتاب : يجدر أن أرد ما وصلت إليه من شهرة بسيطة إلى القراءة، فأنا بكلمتين: صنعتني القراءة .
ويجدر أن أكرر السؤال الإنساني: ما الذي يوحّد الناس؟
هل هي الجيوش؟ هل هو الذهب هل هو العَلَم؟
الجواب هو: القِصص !!
لا توجد قوةٌ في العالم، أقوى أو أعظم من القِصّة الجيدة، التي لا يستطيع أحدٌ إيقافها، أو عدوٌ أن يهزمها .
دلوا ابناءكم ومن تحبون، على القراءة، ففيها علاوة على المتعة، والحكمة، قوتهم وقوة بلادنا .
نكتب بحثًا عن الأمن والسلام، نكتب ولا بد أن نكتب، فكلماتنا صرخات مخنوقة تؤلِمنا وتُعَذِّبنا، ولا تهدأ ولا تستقر حتى تُسمَع، نكتب هربًا من الوحدة القاتلة إلى صُحبة القلم المؤنِس الذي يسافر بنا إلى بلاد بعيدة، كلُّ شيء فيها جديدٌ ومثير، ولَم نَعهده من قبلُ، نهرب على صَهْوته من صمْت الذات إلى حفل صاخبٍ، وأحاديث مطولَّة مع صديق قديم، لَم نَرَه منذ زمنٍ بعيد !!
نكتب لأننا سَئِمنا الكلام الذي سَرعان ما يتبخَّر في الهواء، نكتب لأننا عُقلاء ملُّوا من عقولهم، واشتهوا بعض شطحات الجنون، واختراق أسوار المستحيل، نكتب لأننا نعشق الزهور ونخاف عليها نكتب لأننا نحب أن نكتب، وحينما نشتاق نُعانق القلم بلا استئذان، ونُراقصه بلا خجلٍ، وحينما يصمت القلم وتجدب سَماؤه، نحسُّ بالشقاء وتتلاعب بنا أوهام الضياع، نحاول الكتابة رغم صدود القلم وجَفوة الحبر وصَمم الورق، نتحدى المستحيل لنكتبَ؛ لأن خلف القلم صقرًا مضطربًا في أسْرِه، وبُركان يتململ من هدئه، ويَتوق لانفجار حِمَمه الحمراء والأرجوانية؛ لتحرقَ الغابة الهزيلة، وتهدي رمادها قُربانًا لغدٍ أفضل وغابةٍ أجمل !!
نَكتُبْ لأنّ هُناك " ما " يستحق الكتابة ..
نَكتُبْ لأنّ هُناك "بركان " يريد ان يخمُد ..
ونَكتُبْ لأنّ هُناك "ضجيج " يريد ان يصمُت ..
نَكتُبْ لأنّ الكلمات لا تُعاتِب ولا تُحبِط ولا تنقُد ..
ونَكتُبْ لأنّ الكلمات لا تخذُل ولا تغدُر ولا تهجُر ..
نَكتُبْ لأنّ الِكتابة هي وسيلتنا "الوحيدة" للتواصل ..
ونَكتُبْ لأنّ الكتابة هي لُغتنا "المُشتركة" للتفاهُم ..
د. علوي عمر بن فريد
.