هذه واحدة من الأزمنة الجديرة بتناول ملف لطالما أغلق لسنوات طويلة تحت جملة الذرائع التي تبدو أنها استوطنت المبهمات من المفاهيم المنساقة من صراع الحرب الباردة عندما كانت مياه عدن الدافئة تُرفع عليها الرايات السوفييتية ضمن محور وارسو الذي تلاشى مع سقوط جدار برلين، غير أن شيئاً عالقاً مازال باقياً تبدو فيه عدن كضحية.
مازالت عدن تدفع ثمناً باهظاً لنزوة القوميين العرب الذين اختاروا اليسارية كمنهج سياسي لما بعد الاستقلال الأول في 30 نوفمبر 1967 ضمن صعود المد القومي العروبي في تلك الحقبة التاريخية من القرن العشرين التي تزعمها الزعيم "جمال عبدالناصر" تلك الطفرة حرّفت مسار الاستقلال الأول ويمننة الجنوب العربي، وأوقعت البلاد التي كانت درة تاج الإمبراطورية البريطانية العظمى في الفخ التاريخي، فلا سياق يلائم الاتجاه سياسياً لليسار سواء السياق الجغرافي أو الديني والمذهبي، مجرد نزوة واندفاع غيّر مجرى كل شيء.
شكلت فترة الحكم الماركسي في عدن، والتي امتدت من الاستقلال إلى عام 1990، ما صنعه لينين في الذهنية السياسية الأميركية التي لم تغادر غفوتها التاريخية عند انتزاع الجنوب استقلاله السياسي، ولم تقرأ آنذاك التأثيرات الجارفة للخطاب الناصري، لم تستطع الدوائر السياسية الأميركية تقدير الموقف، بينما عرف الجنرالات السوفييت كيف يستقطبون الرفاق العرب بحماساتهم وكثير من شجاعتهم واندفاعهم.
كانت واشنطن تعيش نزوتها التاريخية بعد أن وجهت لكمتها القاضية للمعسكر الشرقي، وفيما كان العالم يلتقط الصور التذكارية على أكوام بقايا جدار برلين وحلف «الناتو» بقيادة الأميركيين منشغلين في حرب البلقان، كان نظام صنعاء انتهازياً في استدعائه للمتناقضات المخاصمة لرفاق لينين.
ففي صيف 1994 استدعى هذا النظام الأفغان العرب بعقيدتهم التكفيرية ليقاتلوا آخر معاقل الشيوعيين في الشرق كما ادعت صنعاء في تحشيدها على عدن. تكررت مرة أخرى إساءة تقدير الموقف، فنتائج حرب صيف 1994 لم تهزم بقايا الرفاق فقط، بل صنعت الفراغ الواسع لتشغره القوى الإرهابية التكفيرية التي أعلنت عام 1995 عن تأسيس تنظيم «القاعدة في شبه جزيرة العرب»، ومن اليمن انطلق الإرهابيون لينفذوا أول عملية إرهابية استهدفت قوات أميركية في العاصمة السعودية الرياض، لتتوسع عمليات «تنظيم القاعدة»، مستندة على الغطاء السياسي، الذي وفره نظام صنعاء المتحالف مع جماعة «الإخوان المسلمين» آنذاك.
مرة أخرى استهدفت الولايات المتحدة في ضربة إرهابية أصابت المدمرة (يو أس أس كول) في هجوم إرهابي (أكتوبر2000) في خليج عدن، ولم يتم تدارك تقدير الموقف حتى بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 وملاحقات المارينز لعناصر «القاعدة» في محافظات شبوة وأبين التي نشرت من بعدها واشنطن طائراتها في سماء عدن والمحافظات اليمنية شمالية (مأرب والبيضاء) وكافة محافظات الجنوب لتصطاد عناصر «القاعدة»، كلما أتيح رأس من الرؤوس في عمليات متصلة في نطاق حرب مكافحة الإرهاب.
بعد تحرير عدن من مليشيات الحوثي (أكتوبر2015) ساهمت القوات المسلحة الإماراتية في تأهيل وتدريب وحدات أمنية متخصصة لمكافحة الإرهاب وحققت النخب والأحزمة الأمنية نجاحات كبيرة تتطلب مقاربة سياسية لاستكمالها، وهنا يجدر بدوائر القرار الأميركية أن ترى المشهد في عدن والجنوب بعيون غير تلك العيون التي رأت وعاينت ما صنعه لينين، فالأمر لم يعد قابلاً للماركسيين الذين تلاشوا وانتهوا وبقي واقعاً مختلفاً.
ففي هذه المساحة يوجد من «الدواعش» والإرهابيين الكثير المتسترين بالحزب السياسي الممثل لجماعة «الإخوان المسلمين»، ومن تحت عباءته يتحركون ويتنقلون ويحملون الأحزمة الناسفة والمفخخات المتفجرة، فهل يمكن الآن وبعد كل هذه التقلبات أن تعمل واشنطن على تقدير موقف عدن من زاوية الفرصة التاريخية التي تطوى فيها خطايا ما عبث به لينين في نزوة صنعت مأساة عدن طويلاً جداً؟