دعونا نتفق أن الهوية السياسية الموحدة للجنوب والشمال لم تكن موجودة في أي وقت من الأوقات، إلا بعد تحقيق وحدة 22 مايو/آيار في عام 1990، وأنتهت هذه الهوية تماما في 7 يوليو/تموز 1994. إن اليمن بمفهومها الحقيقي أبعد ما تكون عن الهوية السياسية للجنوب والشمال، بل هي هوية جغرافية وإجتماعية -إلى حد ما- وهذا شيء لا يختلف عليه أثنان.
الإقرار بهذه الحقيقة يساعد على فهم وحل كثير من الأمور، في الجنوب هنالك نزعة كبيرة لرمي الهوية اليمنية بكل أوجهها نتيجة لإستغلال هذه الهوية في ترسيخ إحتلال الجنوب، وهذا خطأ فادح، معالجة الخطأ بخطأ أكبر منه لا يسهم في حل أي شيء .
شمالا يتم الترويج للهوية اليمنية السياسية بشدة، ويصل البعض من الإكاديميين والنخب الشمالية إلى حد التأكيد على أن الجنوب والشمال كانا موحدان منذ الأزل، ولديهما هوية سياسية واحدة، وهذه من أكبر المغالطات التأريخية التي قد نسمعها يوما، لم يحتكم الشمال والجنوب لدولة واحدة ونظام واحد وهوية سياسية واحدة طوال تأريخهما، ولطالما كانت هناك حدود سياسية فاصلة بينهما، عززتها فيما بعد الهوية المذهبية (زيود وشوافع) بشكل كبير .
وبعيدا عن تطرف الشمال والجنوب بشأن الهوية اليمنية، تشكل الهوية اليمنية هوية جغرافية وإجتماعية للشمال والجنوب على حد سواء، مثلها في ذلك مثل الهوية الشامية، الفلسطيني والأردني والسوري واللبناني يعترفون جميعا بهويتهم الشامية كهوية جغرافية وإجتماعية، ولكنهم يتميزون بهويات سياسية مختلفة، لكل واحد منهم دولته الخاصة ذات السيادة والتي لا يمكن التدخل في شؤونها تحت مسمى هذه الهوية.
دول الخليج كذلك، هويتها الجغرافية والإجتماعية هي الخليج، لكنها تتميز بهويات سياسية مختلفة، هنالك 6 دول في الخليج يتمتع كل منها بسيادته وإستقلاليته الخاصة، لم تحاول السعودية يوما ضم قطر او البحرين تحت مسمى الهوية السياسية الخليجية الموحدة ابدا، إن المساعي الخليجية لإيجاد هوية سياسية خليجية موحدة تكون الهوية الجغرافية أرضيتها الصلبة لا زالت في نقطة البداية، ويشكل مجلس التعاون الخليجي إحدى أهم الخطوات في سبيل تحقيق ذلك .
دول المغرب العربي إيضا تقر بهوية جغرافية وإجتماعية موحدة تجمعها، ومثل الشام والخليج، لديها هويات سياسية خاصة، هنالك الجزائر والمغرب وليبيا وتونس وموريتانيا، كلها هويات سياسية مستقلة ضمن هوية جغرافية واحدة هي المغرب العربي، وعند أخذ الهوية الجغرافية بشكل أوسع، نجد أن كافة الدول العربية تجمعها هوية جغرافية وإجتماعية واحدة هي الوطن العربي، ولكنها في نفس الوقت تتمتع بما يزيد عن 21 هوية سياسة مختلفة.
قد يقول قائل أن هذه الهويات السياسية ليست إلا حصيلة ل"سايكس بيكو"، هذا الأمر صحيح من عدة جوانب إلا أنه من الإجحاف إنكار أن تقسيم سايكس بيكو اعتمد على معطيات واقعية، كانت الهويات السياسية الحالية موجودة بنسبة كبيرة قبل سايكس بيكو ويمتد بعضها لقرون في التأريخ، لم يقم اتفاق سايكس بيكو بشيء جديد كليا، إنما عزز هويات سياسية موجودة ورسم بينها حدودا.
يجب أن نتجاوز في اليمن مسألة الهوية اليمنية السياسية، لم يكن اليمن بمفهومه السياسي موجودا على الإطلاق، ولكن الهوية اليمنية الجغرافية والإجتماعية موجودة، وهي هوية يجب الإعتزاز بها شمالا وجنوبا، قامت على اليمن الجغرافي دول وحضارات ضاربة بجذورها في التأريخ، ولأهل اليمن فضائل كثيرة بعد الإسلام ذكرتها السنة النبوية المطهرة، إن وجود هويتان سياسيتان مستقلتان في اليمن لا يلغي هذه الهوية بابعادها الجغرافية والإجتماعية والتأريخية، بل قد يكون الحل للخطأ التأريخي المتمثل باليمن السياسي الذي تم إستحداثه بعد عام 90 .
يعقوب السفياني