في لحظة فارقة من التاريخ السياسي للعالم العربي اهتزت القوى العربية التقليدية بشكل غير مألوف، ورغم المنعطفات التي شهدها التاريخ العربي، إلا أن الحد الأدنى من التماسك ظلت مصر قادرة على أن تحافظ عليه بالقدر الممكن منذ خمسينات القرن العشرين. ومع هبوب رياح ما يسمى الربيع العربي انطلاقا من العام 2011 والاهتزاز الذي أصاب أركان العالم العربي بما في ذلك قلبه المصري كان لا بد من أن تتحمل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة الدور الأهم بحماية الأمن القومي العربي وصيانته.
تتسابق الأجندات السياسية الطامعة في السيطرة على العواصم العربية، فسقوط صنعاء عام 2014 بيد الذراع الإيراني الحوثيين كان فصلاً من فصول تلك الأجندات المتعطشة إلى ابتلاع الدول وتحويلها إلى ملحقة ضمن المحاور المتنافسة، سواء كانت إيران أو تركيا، كدول لديها كامل الرغبة في التوسع على حساب المنطقة العربية بعد أن تم توظيف تيارات الإسلام السياسي، بشقيها السني والشيعي، لمصلحة الأجندات الخارجية في المنطقة.
تطلبت المرحلة الصعبة قرارات شجاعة كان على السعوديين والإماراتيين اتخاذها ولعب الدور القيادي فيها من خلال التصدي لتلك المشاريع التوسعية من ناحية، وتوفير ما يمكن من الأمن والاستقرار للشرق الأوسط من ناحية أخرى. مع ضرورة الأخذ في الاعتبار التغيرات الدولية الطارئة بصعود قوى سياسية غير تقليدية منذ نهاية الحرب الباردة بصعود اليمين المتطرف ما زاد من الآثار السلبية على الجاليات المسلمة في الغرب وعدد من دول شمال القارة الأميركية.
لم تكن ثورة 30 يونيو 2013 مجرد ثورة للشعب المصري بمقدار ما كانت لحظة اختبار سياسية قد تكون هي الأقوى منذ عقود في التاريخ العربي، فلقد كان المصريون الذين رفضوا مشروع الحكم الإخواني يحتاجون إلى موقف سياسي يساند القوى الوطنية المصرية في ظل أصعب ما يمكن أن يكون عليه حال التأخر في اتخاذ القرار الذي بموجبه استعادت مصر دولتها الوطنية، ما يحدد بشكل مباشر ماهية الصراع في المنطقة العربية ومفاده أن ضرب الدول الوطنية يهدد منظومة متكاملة إن سقطت يتداعى سقوط الدول، ولذلك كانت السعودية والإمارات على قدر المسؤولية السياسية بإسناد الثورة المصرية.
في هذا السياق ولتأكيد أن الالتزام السعودي الإماراتي لم يأت من فراغ بل نبع من إستراتيجية واضحة، يجب العودة إلى ذات الموقف الذي اتخذ في مملكة البحرين عندما وصل التهديد الإيراني إلى ضرب الدولة الوطنية البحرينية، فجاء التدخل الحاسم بقرار الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز بالدفع بوحدات عسكرية من قوات درع الجزيرة مع موقف سياسي صارم تم التحشيد له من خلال المنظمات العربية والدولية لإنقاذ البحرين من الانزلاق في أتون صراعات ستؤدي إلى الفتك بها.
النموذجان المصري والبحريني يعتبران مدخلاً لمعرفة وضوح الإستراتيجية السعودية الإماراتية المرتكزة على أدوار وأهداف بالغة الدقة، ولا تقبل التأويل أو المزايدة في ظل عالم متحرك، فحتى ما كان افتراضاً أن نهاية الحرب الباردة ونهاية المعسكر الشرقي فتحتا الباب للأحادية القطبية بافتراض أن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة المتحكمة دولياً لا يبدو منطقياً في ظل الصعود الدولي للصين في الشرق عبر منهجها الاقتصادي، وإن بدت كامنة إلا أن تأثيرها بلغ كل قارات العالم.
هذا التحدي ليس فقط ظرفيا أو طارئا بل هو سياق طبيعي في ظل تطور الدول ونموها، وهو ينعكس على المنطقة العربية التي تعاني أصلا من صراعات مستدامة مع بروز الأطماع الإقليمية في العقود الأربعة الأخيرة والهتك بالبنية الوطنية للكثير من الدول العربية التي تعرضت لهزات قوية تجلت بوضوح منذ سقوط النظام العراقي في العام 2003، وصعود حكم الميليشيات المسلحة الطائفية التي مهدت بدورها لتصاعد الإرهاب كواقع مهدد للدول والكيانات الاجتماعية والسياسية.
وتبدو الإستراتيجية السعودية الإماراتية في اليمن أكثر جلاء وأكثر أهمية للاستقراء والمتابعة. فاليمن الذي كان يعاني ضعفاً وترهلاً في بنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية كان التعامل معه تحديا صعبا لواقع الطبيعة الجيوسياسية في هذا البلد المُعقد أصلا، ومنذ التدخل في 2015 كانت المعركة المزدوجة ضد الحوثيين والتنظيمات الإرهابية كالقاعدة وداعش تحمل إدراكا لنوعية التحدي وصعوبته على مختلف المستويات.
بعد سنوات الحرب في اليمن لا يمكن فقط اعتبار أن المساحة الجغرافية الأكبر تم تحريرها، بل يجب الأخذ في الاعتبار أن المساحة الجغرافية المحررة باتت مناطق قادرة على حماية نفسها من الجماعات المتطرفة، فما قامت به الإمارات من جهد لتأهيل القطاعات الأمنية عبر الحزام والنخبتين الحضرمية والشبوانية يعد جزءا لا يتجزأ من إستراتيجية السعودية والإمارات في مكافحة الإرهاب خاصة وأن ربع قرن مر ومناطق حضرموت وشبوة وأبين كانت بؤرا حاضنة لهذه التنظيمات تمتلك فيها معسكرات التدريب والإيواء لعناصرها، وفقدتها مع توالي العمليات الأمنية التي أشادت بها الولايات المتحدة وكذلك تقارير الأمم المتحدة.
التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن ما زال محتفظاً بقوته التي نشأ فيها ليس في 2015 بل في 2011 والمحطات التي مرّ بها لم تضعف قوته، بل زادت من عنفوانه وتجربته تحت وقع الاختبارات والتحديات، ولتأكيد ذلك لا بد أيضاً من العودة إلى الحملة التي استهدفت السعودية بعد مقتل جمال خاشقجي كواحد من تلك التحديات العنيفة التي حاولت الاستفراد بالسعودية لكنها وجدت حليفها الإماراتي يقف إلى جوارها سياسياً وإعلامياً، تماماً كما هي الإمارات التي عندما واجهت الحملات المغرضة من إخوان اليمن وجدت السعودية بجوارها كحليف يدرك الأدوار المناطة بالإماراتيين ومسؤولياتهم الملقاة على عاتقهم في الملف اليمني.
لم تكن ليبيا أو موريتانيا أو الأردن أو العراق بعيدة عن الإستراتيجية المشتركة للسعوديين والإماراتيين، وما كان السودان إلا واحداً من المستفيدين من الدور الذي لعبته الرياض وأبوظبي على مختلف المستويات التي نجحت في نقل التجربة السودانية نحو عملية انتقال آمنة. هذه النماذج العربية لا يمكن الانتهاء عندها دون النظر إلى الدور الذي ذهبت إليه السعودية والإمارات بطي صفحة الصراع الإثيوبي – الإريتري الذي أنهى سنوات حرب طاحنة وخلافات عنيفة انتهت بالفعل الدبلوماسي السعودي الإماراتي.
مشهد آخر يؤكد مدى الجهد السياسي للرياض وأبوظبي، لا يتمثل فقط في ظهور وزير الدولة السعودي عادل الجبير ووزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد ينزلان من طائرة واحدة في باكستان، بل يُنتظر أن تنجح الجهود السعودية الإماراتية في التوصل إلى عقد اتفاق سلام نهائي بين باكستان والهند وهما أكبر دولتين نوويتين في آسيا، وهو جهد ينتظر تتويجه عبر دبلوماسية النفس الطويل وإستراتيجية قائمة أساسا على تقريب الشعوب وتعزيز البنية الوطنية في الدول.
لا تنتهي السعودية والإمارات في جهودهما نحو السياسة والحرب بل إن الجانب الاقتصادي ملعب آخر يتقاسم فيه البلدان جهودهما. فالصين واليابان، وهما الدولتان الاقتصاديتان المتنامي صعودهما، وجدتا في السعودية والإمارات أسواقا مشتركة لوجود اتفاقيات جعلت من التبادل التجاري فرصا اقتصادية مرفوعة القيود ما يساهم في زيادة التوسع الاقتصادي للدول الباحثة عن استثمارات اقتصادية آمنة ومستدامة.
محددات العلاقة السعودية الإماراتية أسست لحِلف استثنائي تجاوز استهلاك الشعارات وجعل وحدة المصير والهدف غاية من الغايات المزروعة في وجدان كل مواطن سعودي وإماراتي، هذه المحددات جاءت من قيادات سياسية تمتلك رؤية لواقع التحديات والقدرة على تجاوزها ولعب الأدوار في كل محطة من المحطات المختلفة، مع استمرار الرغبة الأساسية في تأمين أعلى درجات الاستقرار الوطني في البلدين وتحقيق أعلى درجات النمو الاقتصادي والمعيشي لمواطني البلدين. هذه الرؤية هي التي تقود المنطقة العربية مع كامل التحديات التي ما زالت تحلم بشق الطود السعودي الإماراتي.