لا اعرف لماذا احسيت بغصة في قلبي هذا المساء بعد ان انتهيت من وجبة الإفطار؟ اتممنا 24 يوما من الصيام و كأنها 24 دقيقة، و فجأة عاد بي الزمان الى الزمان الجميل القديم، و تذكرت كيف كنا نفرح قبل قدوم هذا الشهر الكريم، و نستعد له بالأهازيج، كنا نرى مدى حفاوة الناس بقدوم شهر الخير و البر و صلة الرحم و المبادرة إلى الطاعات، و الابتهاج الاجتماعي الذي يلف كل أفراد المجتمع، في وقت كان الجميع يعيش الحياة بشكل بسيط و بغير تكلف.
تلك الايام في مسقط رأسي مديرية الشيخ عثمان كانت المدينة تخلو من مظاهر الرفاهية، الا إن الخير كان يعم، فكانت امهاتنا تكثف من طهو الأطعمة الرمضانية، و يكثر توزيع الأكل على الجيران في الحارة (الحافة)، و كانت بعض البيوت المقتدرة تخرج للمساجد الأطباق المختلفة.
اتذكر تلك الأيام و قبل بداية رمضان يكثر الناس من ذكر فضائل الشهر، و يعبرون في أحاديثهم اليومية عن مدى شوقهم إليه، مبتهلين إلى الله أن يبلغهم إياه، و أن ينعموا بطاعتهم، لافتاً إلى أنهم يظلون على هذه الحالة تقريبا 15 يوما قبل ان يهل الشهر الكريم، و نتذكر تلك الاناشيد الجميلة و كان اشهرها :
"مرّحب مرّحب يا رمضان // يا مرحبا بك يا رمضان
و ما ان يحل رمضان حتى تبدأ الحافة تعيش أياماً ساطعة على مدار ثلاثين يوماً، حيث يخرج الجيران أطباقهم إلى المائدة التي يجتمع عليها عدد من البيوت، و كان هذا المظهر له تأثير كبير على الناس الذين يشعرون بنعمة الإخوة و التقارب و التآلف و العيش في رحاب تكافل اجتماعي كبير، حيث تنشط سيدات البيوت في طهو الأطعمة التراثية التي تزين مائدة إفطار الحوافي، بحيث يضع كل واحد إفطاره فتكتمل المائدة و يجلس كل فرد في انتظار أذان المغرب.
...
و بالرغم أن الحياة كانت على بساطتها و قلة مواردها، فإن شهر رمضان في الماضي كان يفيض على الجميع بالخير الوفير و البركة و الشعور بالراحة و الاطمئنان، و أن البيوت كانت تطبخ الأطعمة و تصنع الحلوى، التي غدت في هذه الأيام من جملة الموروث.
هكذا كنا، و هكذا كان التآلف بيننا حين يبلغ مداه، يتزاور الناس فيما بينهم و يقدمون من بيوتهم و أطعمتهم أطباقاً للمساجد لكي يفطر عليها عابرو السبيل، و الذين يقصدون المساجد في هذه الساعة طلباً للإفطار.
كان اهالينا في عدن طيبون، و يجودون بما لديهم، تيمناً ببركة شهر رمضان الكريم، و كنا نحن الأطفال ننشد أهازيجنا التراثية، في مشاهد حيوية تعبر عن القيمة و الأصالة، و تستمر هذه المظاهر مستمرة في الاسبوعين الأخيرين من رمضان، و نحن نردد:
مودّع مودّع يا رمضان
في داعة الله يا رمضان
بروق الحِمى أبرقي يا بروق
عسى الله يسقي بك المجدبين
إلى أن يحين العيد فتنصب الأراجيح «الدراهين» و نستمر نحن الأطفال في الابتهاج و الفرح الغامر. و نؤدوي ألعابنا الشعبية في و سط الحافة، و يمر علينا علي حسين الشاطر و هو يردد علينا :
"يا علي حسين طز البيسة، و البيسة ما طزت علي حسين".
كانت لنا ايام جميلة ... من سرقها علينا يا عدن
علي محمد جارالله
9 يونيو 2018