من جنوب الربع الخالي، الذي «حملت» رمالَه رياحُ الأزمنة فوق الأطراف الشمالية للهضبة الوسطى، وحتى خليج عدن، الذي انحشر بين القرن الإفريقي وشواطئ الجنوب اليمني، يتشكل المحتوى القاري والبحري لجزء رئيس ومهم من جنوب الجزيرة العربية، ويمتد أيضاً من هضبة «الدرع العربي» المطلة على جنوب البحر الأحمر في الغرب حتى حدود عمان شرقاً. جغرافيا طبيعية شديدة التنوع والإبهار، ومسكونة بشعب يعد من أكبر شعوب الإقليم وأقدمها.
وعلى الجغرافيا اليمنية تلك نشأت عبر التاريخ مجتمعات في بيئات متفاوتة، وفقاً للتكوينات الطوبوغرافية بعناصرها الطبيعية التي حددت علاقة الإنسان بالمكان، وأكسبتها خصوصيات متنوعة، ثم اغتسلت بمياه التاريخ وتعاقُب الحضارات والأحداث حتى أطل القرن العشرين بهيئته الحادة ومتغيراته الكبرى التي تكونت على إثرها الدول الوطنية في الشرق العربي.
في مايو 1990 فاجأ قادة الجنوب والشمال اليمني العالم بقيام وحدة اندماجية في إطار مشروع سياسي ضخم، يوفر أيضاً من الناحية النظرية، البيئة التاريخية للسير نحو التعددية السياسية وبناء الدولة الديمقراطية الحديثة.
وبعد وقت قصير أدرك اليمنيون أن النظرية تلك كانت فضفاضة للغاية ولم يلبسها الواقع إلا وفق مشيئة الأقوياء، فلم تلبث دولة الوحدة طويلاً حتى تحولت من مشروع تاريخي كبير ورحب، إلى إطار ضيق اختزلته النخب الحاكمة، ليصبح ملك يمينها وتصبح معه سيدة على كل شبر في الجغرافيا اليمنية.
وكما هي طبيعة الأشياء عند بعض الزعامات العربية ضاق فضاء دولة الوحدة مرة أخرى، لينتقل من سيطرة «النخبة» إلى سيطرة «الأسرة» بمنهجها التوريثي. فدخل اليمن مرحلة خارج مساراته الطبيعية وخارج طموحاته الكبيرة، وذهب النظام باتجاه تدوير الصراعات والاشتغال عليها هروباً من الاستحقاقات الوطنية، حتى استُدعيت حمم التاريخ المتحفزة من تحت السطح، ليصل البلد إلى حالة انسداد مخيف، في السنوات التي سبقت أحداث «الربيع العربي». وللحكاية فصول ما تزال تتسلسل بصورة دراماتيكية ويعيش اليمن تداعياتها لحظة بلحظة.
يصف محللون سياسيون اليمن في سياقات أحاديثهم المختلفة بأنه عمق استراتيجي لدول الخليج، ومخزون بشري، وأرض واسعة توفر منافذ برية وممرات مائية، ليس كبديل ظرفي لتأمين إمدادات النفط الخام والغاز عبر البحار المفتوحة، حين تُغلق أو تُهدد مياه الخليج العربي المحدود المساحة، والمحكوم بعلاقات واستقرار البلدان «المتشاطئة».. ولكن لأسباب جيوسياسية مهمة تجعل من اليمن جزءا حيويا مكمِّلا ومتنفسا طبيعيا ومهما للغاية في ظروف السلم والحرب وبوابة مثالية نحو قارات العالم.
تجربة الشعوب العربية مع الخطاب السياسي الرسمي و»التنظيرات الهوائية»، جعلت الكثيرين لا يلتفتون إلى تلك المصطلحات الكبيرة كـ»العمق الاستراتيجي» وغيره، بل إن البعض اعتبر المفردات مجرد «دندنات كلامية متلفزة» يبثها محللون ويسوقها ساسة في لحظات التنظير المأخوذ بنشوة الأضواء، أكثر منها شغلا ممنهجا وعمليا على الملفات الجيواستراتيجية الكبيرة.
هل كانت علاقة دول الإقليم باليمن تعكس المفهوم الاستراتيجي للشراكة؟ أو «العمق» الذي تحدث عنه السياسيون؟
تلك مسألة تحتاج الكثير من البحث، وقد يختلف حولها الجميع، لكن هناك أمرا شديد الوضوح، وهو وجود اختلافات كبيرة في مستويات الحياة الاقتصادية وطبيعة أنظمة الحكم، بالإضافة إلى مسائل تتعلق بحجم الثقة المتبادلة مع النظام الذي حكم صنعاء لفترات طويلة، وهذه الأخيرة جسدت «إشكالية العلاقة» وتفاوتها في كل مقطع زمني ومع كل حدث إقليمي.
بالطبع كانت هناك أبواب مفتوحة أمام اليمن واليمنيين، خاصة مع المملكة العربية السعودية. وكانت هناك علاقات لها خصوصيات تاريخية على المستويين الرسمي والشعبي، ولا يمكن إغفال حقيقة وجود نخب مالية كبيرة من أصول يمنية وعمالة واسعة الطيف توافدت على المملكة، وما تزال، من كل محافظات اليمن المختلفة. وهناك مساعدات كبيرة قُدمت في مجالات عديدة، وذلك أمر طبيعي للغاية.
لكن في المقابل، ولأسباب كثيرة، يرى المتابعون أن هناك أسوارا ظلت تحول دون الوصول إلى شراكة كاملة بين اليمن ومحيطه الإقليمي منذ عهد بعيد، وظل الاهتمام المستمر منذ عقود مركّزا على بعض النخب السياسية والقبلية.
وفي الوقت الذي كان اليمن خلال العقدين الأخيرين يشهد بشكل تدريجي انقسامات واستقطابات داخلية على خلفيات متعددة، واحتقانات كبيرة، واتساع الصدوع بين الجنوب والشمال، وبروز مخاطر جسيمة تتعلق بتعاظم قدرات التنظيمات المتطرفة.. كان هناك، وفقاً لبعض المراقبين، قصور في التعامل الجاد مع الوضع المتطور وفي محاولة ملء الفراغات الداخلية في اليمن.
ولم تكن أوضاع اليمن، بدءاً من عام 2004، أي بعد عام من التغييرات الكبيرة في موازين القوى في المنطقة العربية، جراء الاحتلال الأمريكي للعراق، بحاجة إلى قارئ استراتيجي، لأن الأحداث ومساراتها كانت تقدم نفسها لدول المنطقة بطريقة شفافة، وتعلن أن الزمن المقبل سيشهد تحولات صادمة لا تخدم في المقام الأول استقرار دول الخليج، وفِي مقدمتها المملكة السعودية. ومع ذلك لم يتم وضع سياسات حقيقية لمواجهة المخاطر المحتملة، وفق أولويات مدروسة وتُرك «العمق الاستراتيجي» يتآكل من داخله حتى حلت الكوارث.
لا أحد يستطيع تحديد ما كان يجب فعله من قبل دول مجلس التعاون الخليجي بشكل مبكر، كما أنه غير معروف ما إذا كانت تلك الدول قد امتلكت رؤية موحدة حول التقييمات المستمرة لتطور الأوضاع في اليمن وطريقة التعامل معها، إلا أنه من المفيد الإشارة، على أي حال، إلى أن «عاصفة الحزم» أتت بعد أن أصبح اليمن في «الإنعاش»، وظهرت على جسده المريض كل الأزمات التاريخية بأثوابها الجديدة.
و»عاصفة الحزم» كانت وماتزال تمثل «فعل الضرورة» القصوى للتعامل مع حالة متأخرة استفحلت وتعقد أمرها، على الرغم من المبادرات والحوارات والجهود التي بذلتها دول مجلس التعاون ومعها بعض دول العالم، لكن ذلك الجهد الكبير، ربما لم يضع اليد على الجروح العميقة، وذهب يعالج الأعراض المتأخرة التي ظهرت في وقت حرج للغاية على الإقليم والمنطقة العربية.
تلك دروس للتاريخ ربما يعيد الناس قراءتها بصور مختلفة، لكن ما يهم اليوم هو كيفية إخراج اليمن من المشهد المأساوي الحالي، وكيف يمكن وضع نهاية منطقية تضمن استقرار اليمن وعودة الحياة بصورة آمنة ومستدامة. لأنه بعد عامين من «عاصفة الحزم» ما تزال هناك أسئلة كثيرة دون إجابات كافية. والأمر الموجع للغاية أن اليمن رغم كل حالات الموت والفقر والدمار، لا توجد أمامه نهاية مرئيّة أو متوقعة للحرب الكارثية حتى اللحظة، وما يزال غير مؤهل لتقبل حلول حقيقية، مع إدراك أن أي مبادرة سلام تعتمد الحلول المؤقتة قد تجلب أزمات أشد خطورة على الداخل والخارج. وعلى خلفية تلك الحقائق تظل هناك مشروعية لطرح الأسئلة الافتراضية على طريقة «ماذا لو؟». ومع أنها لا تبدو عملية.. إلا أن أهميتها تنبع من بقاء الحالة اليمنية مفتوحة على ميادين غامضة، قد لا تمكن الشعب اليمني من الصمود لوقت أطول، مما قد يدفع الإقليم ومعه العالم إلى دراسة عدد من «خيارات الضرورة».
*- كاتب سياسي جنوبي . خبير نفطي . كندا