في عام 2006م اقترح السيناتور الأمريكي «جو بايدن» تقسيم العراق إلى ثلاثة قطاعات تحت سلطة الحكم الذاتي على أسس طائفية، بنيت تلك الفكرة على أثر احتدام الاقتتال الطائفي في العراق، فبعد حرب الخليج الثانية 1991م وحصار العراق الطويل وصلت الولايات المتحدة مع بريطانيا إلى قرار غزو العراق في عام 2003م، سقط نظام صدام حسين دون أن يكون لدى الأمريكيين وحلفائهم البريطانيين صورة واضحة حول ما يجب أن يكون عليه حال العراق، وقد يكون أنه يراد لنا أن نفهم ذلك على الأقل، ففي حين أن الأمريكيين كانوا أكثر حضوراً في الفعل السياسي وكذلك العسكري في الشرق الأوسط.
رسم مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أي) جون برينان مستقبلاً قاتماً لسوريا ورجح عدم بقائها موحدة كما كانت مرة أخرى. إشارة برينان إلى احتمال سيطرة بعض من وصفها بالجماعات الأيديولوجية على مناطق مستقلة، لم يكن هذا الحديث الأكثر وضوحاً في مستقبل سوريا فلقد تحدث وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري في فبراير 2016م حول أن مستقبل سوريا سيذهب إلى التقسيم وفقاً لمعطيات الحرب المستمرة منذ 2011م.
العراق وسوريا كتلتان سياسيتان تعتبران عمقاً قومياً عربياً، نجح تنظيم «داعش» الإرهابي من التغلغل في النسيج الوطني لكلا البلدين معاً، حصل ما يمكننا اليوم توصيفه بأنه (هتك) لذلك النسيج الوطني، واقع ما يحصل في البلدين من اضطرابات عنيفة تعيدنا إلى ما بعد غزو العراق في 2003م وتحديداً 2006م عندما ظهر ما سمته وزير خارجية أمريكا كوندليزا رايس بـ»الشرق الأوسط الجديد»، كنا في تلكم الفترة نتحدث التقسيم وقدرتنا على مواجهة هذا المشروع (التآمري)، كان الإيرانيون يسيطرون على المؤسسات في العراق الذي تفشى فيه إرهاب الزرقاوي، وكانت مآلات العراق تكشف وجهاً عابساً بوجود إيران.
كل تلك المعطيات كانت حتى ما قبل ظهور «داعش» يمكن التعامل معها وفق العُمق القومي العربي، وقدرة الدولة الوطنية على استعادة وشائجها، واقع اليوم بات أكثر شحوباً مما كان يعتقده أكثر المتشائمين، فالتنظيم الإرهابي خلق نفوراً من الدولة الوطنية، وصنع جداراً لاهباً بين مكونات المجتمعات، أزمات اللاجئين التي تفجرت على امتداد البحر المتوسط جنوب أوروبا وصلت إلى عمليات مرعبة استهدفت عمق عواصم أوروبا المحصنة بأسوار الديمقراطية.
«كردستان العراق» أنموذج حظي بعناية القوى الليبرالية في العالم، الحديث عن هذا الجزء من العراق ليس هو ذلك الذي تصدر المشهد في مطلع التسعينيات الميلادية من القرن العشرين الماضي، وليس هو الجزء العراقي الذي عرف كيف يتجاوز محنة احتلال بغداد في 2003م، يتحدث الأكراد في هذه الأوقات عن نمو اقتصادي يتجاوز 2,50 %، ويتحدثون بلغة واضحة عن مستقبل اقتصادي واعد، ما زالوا يتلعثمون في حديثهم عن مستقبلهم السياسي لكنهم يتكلمون بواقعية عن حاضرهم، الأسئلة المثارة.. هل أنموذج «كردستان العراق» بالحكم الذاتي هو الأنموذج للشرق الأوسط الجديد؟؟، وهل هذا الجزء هو حجر الزاوية؟؟، الإجابات لا يستطيع تداولها حكام كردستان، أو حتى العراق، أو حتى العرب الذين يعيشون تتابع الأحداث الشديدة العنف في منطقتهم.
في سوريا لا يوجد ذلك الأنموذج فما صنعته «داعش» هو تمزيق وتشتيت لكل شيء، فلا يوجد في سوريا كتل جغرافية ذات لون طائفي موحد، لأن الطوائف متداخلة فيما بينها، ففي الساحل يوجد أتباع الطوائف الإسلامية المختلفة جنباً إلى جنب مع المسيحيين، وحتى في الشمال السوري، وعلى الرغم من تزايد القوة الكردية، فإن الواقع الديموغرافي لا يسمح بسيطرة كردية صرفة ولا بسيطرة عربية خالصة، أما في الجنوب، فلا يملك الدروز أي مقومات أو حتى نوازع داخلية أو خارجية للانفصال.
أطلق الروس مصطلح «سوريا المفيدة» وهو تعبير عن المناطق السورية الساحلية التي يسيطر عليها نظام الأسد، وهي جزء لا يمتلك حقيقة القدرة على الوجود السياسي الطويل بدون التدخل الخارجي المباشر، هنا نكتشف فشل فكرة التقسيم، لأن تقسيم سوريا بهذا المعنى سيفجر المنطقة كلها فتركيا لا تحتمل وجود إقليمين كرديين مستقلين أحدهما في العراق والآخر في سوريا، ولبنان لا يحتمل وجود دولة طائفية أو كيان طائفي على حدوده الشمالية والشرقية، والعراق لا يحتمل كياناً كردياً يكون امتداداً لإقليم كردستان العراق، في وقت لا يقبل فيه أيضاً نشوء كيان إسلامي متطرف على حدوده الغربية، كما أن الأردن لا يحتمل قيام دويلات متعددة على حدوده.
لا يمكننا التكهن بمدى ما حققه «داعش» من نفور تجاه الدولة الوطنية، كما لا يمكننا تجاهل أن التغول الدامي لن يقبل بإعادة سوريا أو العراق لمقاربة ممكنة مع الحالة السياسية السابقة، هنا لا بد من الإنقاذ مهما كانت المآلات واحتمالات التقسيم، فالمطلوب هو وقف الموت والتهجير بردع «داعش» أو ردع «إيران» فلا مستفيد من كل هذا غير طهران الباحث عن تمدد قائم على الطائفية لإعادة إمبراطورية لم تتجاوز يوماً نهر دجلة العربي.