حزب العدالة والتنمية في تركيا يعتبر المنتَج النهائي لمخاضات التيار السياسي ذي الجذور الإسلامية، الذي شهد تقلبات وتبدلات في الأنماط القيادية خلال سلسلة تاريخية من المراحل، وله موروث وتراث غني ساهم في إثراء الحياة السياسية لتركيا، كما أنه نشأ وترعرع في سياق أطوار ونماذج حزبية وتنظيمية تجايلت واختلفت مسمياتها، وتعامل مع المجتمع ومع الظروف السياسية بصورة بناءة وواقعية في ظل الدولة العلمانية، والتزم بقواعد اللعبة واجترح مسيرات طويلة صعوداً وهبوطاً وتعرضت كياناته الحزبية لكثير من الضربات وتعلم الكثير من الدروس والعبر واتخذ المنهج الديمقراطي سبيلاً حقيقياً للتنافس والحضور، ولم يفكر يوماً بأن يتخذ التَّقية سبيلاً للتعامل مع الديمقراطية أو العلمانية، أو لفتح نافذة مؤقتة تمكنه من التحليق في فضاءات تركيا كحزب يمثل السماء، ولم يفترِض أن قوامه البشري يمثلون الصفوة المصفَّاة من الإسلاميين أتباع أهل السنة والجماعة ليمسك بتفاصيل الحياة التركية إلى ماشاء الله، ولم يخلط بين الدوغمائيات الآخروية والإدارة الدنيوية للدولة، بل وضع بينهما مسافة واقعية وتشكل منهجه على خلفية المتطلبات الحضارية للشعب التركي فظل جزء أصيل من الحياة السياسية التركية وأبدع في خلق جدلية “عدم التضاد” بين الدين كأحد الدعامات الفكرية والروحية للحزب، والعلمانية التي تعتبر السمة الرئيسة للحياة السياسية والدستورية للدولة.
وبينما كان “الإخوان” العرب يناضلون من أجل السلطة باستخدام الخطابات الدينية والجمعيات الخيرية مستندين على الإخفاقات الكبيرة للحكام، ذهب الأتراك إلى تعميق الخطاب الحضاري المستمد من الإحتياجات الحقيقية للشعب والمتمثلة بالتنمية والديمقراطية والاستقرار والازدهار، وعملوا من خلال قدراتهم القيادية وكفاءتهم على إظهار قدر غير مسبوق من إدارة الحياة الاقتصادية، ودفعوا بخيرة الكفاءات إلى الواجهة (بعكس العرب) وحققوا إنجازات ملموسة جعلت من تركيا في فترة قصيرة تحتل مكانة متقدمة بين دول العالم كإحدى أهم الإقتصاديات التي تحقق نمواً نوعياً متسارعاً، وهي قفزة تاريخية تحسب لحزب العدالة والتنمية الذي اختاره الأتراك مؤخراً لتلك الأسباب على طريق تحقيق مشروع الدولة التركية الرائدة المزدهرة، بالرغم من محيطها المتحرك ومشاكلها الداخلية.
لم يستطع “الاخوان المسلمون”، مثلاً، في أكبر دولة عربية، وهم يصفقون لأردوغان، أن يستزيدوا من خلاصات التجربة التركية والمنعطفات التي مر بها التيار الاسلامي في تركيا وكيف كان ينهض من كل سقطة ويبدل أشكاله وواجهاته ليتعايش مع كل المستجدات بشكل خلاق، ولم يدعُ، عند أول نكبة، إلى النفير العام لإسقاط الدولة التركية أو يسخِّر قدراته المادية والإعلاميه لضرب الجيش والأمن وتقسيم المجتمع والنخب والشرائح والاحزاب إلى “إخوان” وغير “إخوان” وإلى صالحين وطالحين وإلى مقربين وأعداء، ولم يضع فواصلاً بينه وبين المجتمع المدني وبينه وبين المؤسسات الإبداعية، ولم يستخدم علماء الدين المتشددين في تحريض المجتمع ضد المجتمع، ولم يقل على “النصارى” على أرضه وفي محيطه أنهم كفار، بل اجتهد في سعيه ومايزال لأن يكون جزء من المجموعة الأوروبية وهذا الأمر يمثل أولويات ضرورية في قائمة الأهداف الجيوستراتيجية لتركيا، ولم يتبنَّ في أي وقت من الأوقات أي مفاهيم دينية في سياسته الخارجية وعلاقاته الدولية وهذا ما يؤكده التزامه الثابت بأن تظل تركيا عضواً فاعلاً في حلف الناتو، والجميع يعلمون ماذا يعني ذلك.
إذاً لماذا يهلل العرب لفوز حزب أردوغان وهو يبعد مسافات ضوئية عن مفاهيم الاخوان المسلمين وتيارات الاسلام السياسي العربي في فكره ومنهجه وعقليته ومعارفه السياسية ورؤيته للمستقبل، وهو يرى أن تركيا دولة قائدة ورائدة تاريخياً، ويسعى لاستعادة مجدها كدولة وطنية وأمة حضارية في مقدمة الأمم، ولم تكن له ولا لحزبه أجندة لجعل الدولة التركية مطية للتنظيم الدولي للإخوان بل ربما سعى أو يسعى لتسخير الأخوان في العالم وإمكاناتهم لخدمة أهداف بلاده.
النسخة العربية من التيارات الإسلامية مصابة بنفس الداء المستشري بين الطبقات السياسية العربية بغض النظر عن الطبائع الأيديولوجية المختلفة، فهم لا يفهمون أن بلدان العرب بحاجة ماسة الى مرحلة انتقالية تضامنية بين كل الأطياف، تتعافى فيها أولاً من الحروب ومن عدم الإستقرار ومن الخوف والأمية والفقر، وتتعلم أن الديمقراطية ليست قرار أو انتخابات هنا وهناك بل هي عملية تاريخية طويلة تتعمق فيها متغيرات كبيرة في الثقافة والحريات والتعليم والاقتصاد وحتى في النواحي السيكلوجية وتتدرج فيها التطبيقات والممارسة في كل مرحلة في إطار النقلات المدروسة للدستور والقوانين.
ليست تركيا وأحزابها نموذج مثالي، ولكنها كذلك بالنسبة للواقع العربي اليوم، ومع هذا وذاك لا يحق للعرب أن يهللوا لتركيا أو إيران ولا لأمريكا أو روسيا، أو أن يتمسكوا بأحد خارج سياق حاجة بلدانهم وليس حاجة أحزابهم، فالعرب لم يكونوا في تاريخهم أمةً من المصفقين والمهللين مثلما هم عليه في هذا الزمن الذي اختلطت فيه الرؤى وتعامت الأبصار واختنقت السبل الى الحياة الحقيقية.