اللبناني العظيم الذي لم تعاقبه الآلهة بصخرة مثل "سيزيف"، بل بزَهو الانتماء.. جعله يدفع حلمه المكسور فوق تضاريس البلد ومواويله وأوجاعه، يشيّده في ذاكرة الناس، يرفعه نحو الشمس، ينثره في الضباب ثم يستدعيه على المسرح وفي اللحن، وفي الأغنيات، وبصوته تارة أخرى.
صوته العميق الجارف كموجات رعود بعيدة تهوي بالغيث، لا لتروي الأرض فحسب وإنما لتكشف عمق تكسراتها وشقوقها في لوحة تشبه متاهة الفصول البيروتية في اغاني فيروز : من عشرين شتاء (بعد عشرين شتاء) "ولّعت الدِنِي".. و انزاح عن زهر البيلسان الربيع.. وعن الجنوب صيف العناقيد "، ليؤذن الخريف من على قلعة صور: حيَّ على الرحيل …
رحلَ زياد، مسجى في صوت الكمنجات.. يلوّح بروحه الرشيقة للقمم والمنحدرات والأودية… من القرنة السوداء إلى حرمون ومن القلمون إلى الباروك… ولموج البحر من البترون إلى الرملة البيضاء إلى صور… إلى كل لبنان: الجبل والبحر والبيوت والمزهريات.. و"ورقو الأصفر شهر ايلول".. والطرقات.. والأزقة.. والمساءات المسكونة بصوت فيروز.. ونبض الرحبانية… و قصائد شعراء لبنان: من جبران والأخطل الصغير وميخائيل وجوزيف حرب وطلال حيدر وانسي الحاج وعاصي…
لم يكن زياد شاعراً بالمعنى الكلاسيكي لكنه كتب الشعر حين عزف.. وتلاه حين تحدث.. وأوجعه حين صمت… ملحن، بعبقريته المبكرة، لأجمل ما غنّت فيروز.. وقدم للمسرح أعمالاً عابرة للأجيال. غنى ليسْخرَ من المأساة فهو ابن الطائفة التي لم تروّضه.. وابن العائلة التي لم يعش على تراثها وإنما زادها ثراء.. وابن الوطن الذي مزقته الطوائف و احتلته إسرائيل… فظل يقاوم وجع الطوائف والاحتلال.. بصوته وأعماله وأحاديثه، يحارب النخبة السياسية بدندنات "الأيام اللي وصلنا لها".. و يهشم سياج "التدين الطقوسي" الذي "بلا روح"، وهو يصرخ؛ أنا مش كافر بس الجوع والفقر والذل كافر...
زياد "خلاصة" و "عصير الرحابنة "، عباقرة الفن.. حصيلة ومحتوى.. أضاف لهم مدرسته الخاصة و بصمته و شخصيته المتمردة. كأنه أسطورة أظهرها لبنان ليقول بأن هذا البلد وإن ظل تحت الدخان لكنه يمتلك فضاءً اثيرياً خاص ، يختزن خيمياء الحياة بطقوسها الساحرة ومحافل الأرواح المتمردة على مسارات الشمس ودوائر البروج ليظل ذلك الـ"لبنان" المتميز في كل هذا الشرق.
كان يلحن ويغني ويعتلي خشبة المسرح وفيه من كل شيء وجع وفرح وسخرية.. ليجمع لبنان كل لبنان.. التاريخ.. الجغرافيا.. الفن.. الحروب.. التشرد… وحتى الشتائم المختنقة في صدر المواطن اللبناني… كلها في مساء واحد.
ولد من الفيروز، لكنه لم يتجمّل يوماً.. مشى حافياً في أزقة اللغة، يسخر من الخطابة السياسية ويضحك من الوعود.. ويُسمي الأشياء بأسمائها… لا كما يحبها الناس، بل كما هي في الحقيقة: جميلة تارة و قبيحة موجعة، أو مثقلة بالتكرار تارة اخرى.
لبنان، في نظره، الوطن الذي قدم المفكرين والشعراء والفنانين والمدنية والديمقراطية الأولى… يُفرّغ من قيَمه ومن أهله كما تُفرغ المزهريات من الورد، وكلما فيه يشي بالفقد: الدولة الطوائف.. البنوك.. الكهرباء.. كل شيء… كأن لبنان البلد الذي خُلق ليعلّم البشرية معنى المفارقات.
زياد ينتمي لكل ما يُحتمل وما لا يُحتمل لكنه كان الأمل الجميل في جفون لبنان، ذلك الذي يقول: رغم كل شيء، نحن نغني… ولو على الركام.
لم يكن مجرد موسيقي ومؤلف مسرحي أو إبن عاصي وإبن فيروز… بل كان مختبرًا لأوجاع لبنان ومرآة الناس العاديين حين يصدقون وحين لا يصدقون.. وسقف حين تنهار كل السقوف.
رحل زياد.. وفيروز، بعد غياب، في العزاء.. كأنها تغني ثانية الترنيمة الكنسية، "قامت مريم": "حبيبي حبيبي يا ولداه خاطبني كيف أراك عريان ولا أبكيك…"
وداعاً زياد
احمد عبد اللاه