يدنو يوم الـ20 من ديسمبر، ذكرى انطلاق الهبة الشعبية، التي دعا إليها حلف قبائل حضرموت، ضمن مخرجات اجتماعه الاستثنائي في وادي نحب، يوم الـ 10 من ديسمبر 2013م، الذي ضم مكونات المجتمع القبلية والحضرية والمدنية، بعد اغتيال المقدم سعد بن حبريش ومرافقيه برصاص قوات الجيش اليمني المحتل، في سيئون يوم الـ 2 من ديسمبر 2013م.
لم يكن الـ20 من ديسمبر 2013م يوماً عادياً في حضرموت خاصة ومحافظات الجنوب عامةً، بل كان يوماً مشهوداً، إذ احتشدت الآلاف استجابة لبيان الدعوة في الـ10 من ديسمبر، مستهديةً بالبيان الإجرائي لكيفية تنفيذ وإنجاح الهبة الشعبية الشاملة الصادر عن اجتماع رئاسة الحلف، في الـ15 من ديسمبر.
بعد انصرام عام على بدء الهبة الشعبية التي نص البيان على أنها " تبدأ ولا تنتهي إلا بالسيطرة على الأرض"، جدير بالأهمية أن يصار إلى تقييم موضوعي للأداء والإنجاز، ودراسة أسباب النجاح، والقصور أو الإخفاق، استناداً إلى جوهر الدعوة، والنقاط التي تضمنتها بيانات الحلف الصادرة منذ يوليو 2013م، وعدم التغافل عن نقاط بيان الـ 15 من ديسمبر التي حاولت، (ومازالت تحاول)، قوى وشخصيات ذات ارتباط بمراكز النفوذ والهيمنة في صنعاء، الالتفاف عليها وتعويمها وتمييعها منذ الـ20 من ديسمبر 2013م، لإدراكها العميق أنها هي المدخل الفعلي للوصول إلى لحظة تساقط قطع الدومينو في المشهد كله.
ولست هنا بصدد الخوض في تفاصيل، لكني أشير فقط إلى النقاط التي اشتغلت القوى المرتبطة بمراكز النفوذ والهيمنة في صنعاء، على الالتفاف عليها وتعويمها وتمييعها:
النقطة الأولى: تم الاتفاق على أن يكون حلف قبائل حضرموت هو المرجع الأساسي لكل أبناء حضرموت بما فيهم العاملون في الدوائر الحكومية، ويسري ذلك على الشركات النفطية العاملة في حضرموت.
هذه نقطة مهمة وجوهرية ورئيسة، من حيث إنها تشل صلة مراكز النفوذ والهيمنة بأدواتها التنفيذية، فالنص على مرجعية الحلف الأساسية، يعني أن العاملين في الدوائر الحكومية، خارج سيطرة سلطات الاحتلال، وهي وسيلة مدنية سلمية لإسقاط المؤسسات، وتنسجم مع جوهر العصيان المدني لو تم الاشتغال عليها، وهي تعطي بعداً مدنياً حضارياً لحلف حضرموت كما ينبغي له، وكان من الممكن أن تكون حضرموت أول منطقة تخرج عن سيطرة الاحتلال اليمني وتفاوض على الاستقلال. لكن عملاً كهذا يحتاج إلى إرادة حرة، وتجرد من المصالح الضيقة، والارتهان والارتباط بصنعاء ومراكز نفوذها. فما الذي حدث؟ .
اشتغلت ماكينة تملص "العاملين في الدوائر الحكومية" من واجبهم كقوة تنفيذية لأهداف الهبة الشعبية، لتتحول إلى رافعة ضد الهبة الشعبية من داخلها، ومن داخل الحلف أيضاً، ولا داعيَ للتفصيل.
النقطة الثانية: على المكونات السياسية ومنظمات المجتمع المدني في المدن تنظيم الهبة الشاملة وتشكيل حراسات شعبية لحفظ الأمن والممتلكات العامة والخاصة والخدمات المختلفة للمواطنين.
هذه النقطة لم تكن بمنأى عن العبث بالنقطة السابقة، إذ تم امتداد الالتفاف والتعويم والتمييع من تلك النقطة ليشمل هذه النقطة المهمة جداً، ومع ذلك فقد شهدت الأرض صوراً رائعة قدمها الشباب المتجردون من تأثير أدوات المتنفذين، ولقنوا قوات الاحتلال دروساً قاسية، في المدن والمناطق الريفية، وكان من علامات مدنية الهبة الشعبية بالنظر إلى طبيعة مجتمعنا الحضارية أن اول شهداء الهبة الشعبية كان في مدينة المكلا، الطالب الجامعي عمر بازنبور، برصاص أحد بائعي القات الذي يعد من أدوات الدمار الشامل. وبالمقابل قدم بعض أبناء حضرموت نماذج شاذة في الاستخذاء والتبعية المهينة، وكلها موثقة، ولا داعيَ للتفصيل.
النقطة الثالثة: على الأخوة من أبناء حضرموت العاملين في سلطات الدولة العليا للحكومة ومجلسي النواب والشورى وأعضاء مؤتمر الحوار والقيادات العسكرية وكذا أعضاء المجالس المحلية بحضرموت تعليق عملهم ابتداءً من يوم الهبة الشاملة.
وهي نقطة تسند نقاط البيان التنفيذية، لكنها ظلت دون تفعيل، بل لقد تحول عدد من أولئك إلى وسطاء (نعم وسطاء) بين حضرموت وقوى الاحتلال، وعبر بعضهم كانت تعمل تلك القوى تحت غطاء ما سُمّيَ بـ"اللجنة الرئاسية" على تفكيك وحدة الموقف والصف، بل انتقلت في مرحلة ما إلى المشاركة في هبة مضادة لاحتواء الهبة الشعبية الشاملة، وإفراغها شيئاً فشيئاً من جوهرها ومحتواها، مدعومة بالمال والقرار الإداري، والشواهد موثقة ومعلومة، ولا داعيَ للتفصيل.
وعلى نحو مفارق، يرى المتابع للمشهد بعد عام على انطلاق الهبة، أن أغلبية أولئك لم يوقفوا أعمالهم، كما ينبغي، وتراجعت أمور، بل إن من أبناء حضرموت من صار رئيساً لحكومة صنعاء أو وزيراً للنفط (المنهوب طبعاً)، أو للنقل، أو للاتصالات، أو للأوقاف، أو للعدل، أو للمغتربين. فهل لهؤلاء صلة ما بتنفيذ أهداف الهبة الشعبية الشاملة، من مواقعهم الجديدة، أم هل يصبحون أدوات أو (وسطاء)، في أحسن حالات الممكن والمتاح، بين حضرموت، وقوى الاحتلال الغاصبة الناهبة الفاسدة القاتلة ؟
النقطة الرابعة: نثمن تثمينا عالياً مواقف أبناء الجنوب كافة ونطالبهم بالمشاركة الفاعلة في إنجاح الهبة الشاملة كلاً في منطقته أسوة بحضرموت.
وهي نقطة استراتيجية وتكتيكية في آن معاً، ودالة على رؤية ميدانية تعي تفاصيل المشهد، وطبيعة إدارة المواجهة الشعبية مع قوى الاحتلال المهيمنة على الأرض والثروة والقرار منذ 1994 من باب المندب غرباً إلى المهرة شرقاً، بحيث لا يمكن الحديث عن حضرموت وكأنها (جزيرة بحطبها ومائها) معزولة عما حولها، فالقضية واحدة، وفي امتداد الهبة الشعبية وانطلاقها في توقيت واحد في الأراضي المحتلة، يربك المحتل ويوجه إليه، ضربات شعبية موجعة، تتكامل كلها في تحقيق أهداف الهبة الشاملة، لتحرير الأرض والثروة والقرار.
ولأهمية هذه النقطة فقد عملت قوى الاحتلال والمرتبطون بها على خلخلة هذه النقطة، ليس في حضرموت فحسب، وإنما في مناطق الجنوب الأخرى، تارةً بالتشكيك في أهداف الهبة، والحلف، واستراتيجية حضرموت، وتارةً في شيطنة الهبة والحراك، والغاية من ذلك هي منح قوى الاحتلال مجالاً لأن تعيد أنفاسها، مرة أخرى، وبأدوات من الأراضي المحتلة للأسف، وكان يا ما سيكون، ولا داعي للتفصيل.
...
الآن تدنو ذكرى انطلاق الهبة الشعبية، فماذا يحدث؟ هل تم تقييم الأداء والإنجاز، ووضع خطة استراتيجية لا تتعارض مع هذه النقاط التي تم الالتفاف عليها وتعويمها وتمييعها؟
غير المنتظر الآن هو أن يتمكن المحتتل وأدواته في الالتفاف والتعويم والتمييع، ليتحول يوم 20 ديسمبر المجيد، المجيد فعلاً، إلى يوم للتنازع، بين حلف القبائل والحراك. هذا ما يبدو على المسرح، لكن خلف الكواليس قوى النفوذ والهيمنة وأدواتها التي تؤكد بعد مرور عام أنها هي الأقدر على إدارة اللعبة، مع أن الحلف والحراك يشتركان في وحدة الهدف والعدو، ولا تعارض بينهما، وإن يكن لكل منهما برنامجه الخاص، من حيث التكوين أصلاً.
الآن، هناك من يريد ليوم الـ20 من ديسمبر الذي ارتعدت من هيبته قوى الاحتلال وأدواته، أن يمحو من ذاكرتهم ذلاً وصغاراً أصابهم قبل عام، وهم من أجل ذلك يشغلون ماكنتهم الإعلامية ووسائل التأثير المادية والنفسية، ويشتغلون على التباينات، لتكون ذكرى الانطلاق مشهداً آخر من مشاهد (التكاثر) الذي ألهى قوى الشعب في الأراضي المحتلة، عن استحقاقات الفعل السياسي المنظم والممنهج، إذ ينبغي ألا يكون الـ20 من ديسمبر فعالية حشد، مهما يكن عدد المحتشدين فيها، ولكنْ يوماً لوحدة الموقف والخطط الاستراتيجية وتنفيذ ما لم ينفذ منذ يوم الانطلاق. أما سوى ذلك، كأن يكون الاحتقان بمختلف مظاهره، للتنازع على يوم 20 ديسمبر، فما هو إلا ارتكاس عن حقيقة وجوهر الهبة الشعبية التي عملت قوى النفوذ والهيمنة ومراكزها القديمة في صنعاء عبر أدواتها في الأراضي المحتلة ولا سيما حضرموت، على الالتفاف عليها وتعويمها وتمييعها، وتعمل المراكز الجديدة في صنعاء عبر أدواتها أيضاً في الاتجاه الضدي للهبة الشعبية، ولا فرق بين مراكز قديمة وجديدة، فكلها ذات مهيمنات عقلية واحدة، واستراتيجيتها بقاء النهب والاحتلال بأي شكل، وهي لذلك لا تريد لها أن تكون أكثر من فعالية حشد و(تكاثر)، تنتهي ببيان، ثم تخلّف وراءها احتقانات جديدة، لا تخدم الهبة وأهدافها، بقدر ما تلهي هؤلاء بهؤلاء، فيما الأرض مازالت محتلة، ونهب الثروة لم يتوقف، واستلاب القرار ساري المفعول، والقات يومياً، والقتل لا ينتهي. لذلك لا ينبغي للـ20 من ديسمبر 2014م، أن يقال عنه يوماً: ألهاكم التكاثر.