نكذب إن قلنا بأننا نملك الحقيقة، ومثلنا مثل معظم شعب الجنوب تزدحم رؤوسنا بكثير من الأسئلة التي نبحث لها عن إجابة، وأهمها: أين يُصنع قرارنا، ومن يصيغ سطور بيانات ثورتنا؟، والسؤال الصعب في هذه اللحظة الحساسة، وبعيدا عن المزايدة هو: هل تمخض جبل قادة، ومناضلي الجنوب، وولد فأرا!؟.
بين شعورنا بالفخر لعظمة الوجوه التي لفحت جبينها الشمس، ومشهد أمواج الحشود التي تبحث عن الحرية، والسلام، والفرحة التي انتظرنا لكي نطلقها في صباح عيد استقلالنا الأول، وبين آثار الدماء التي أدمت قلوبنا، والحسرة التي سكنت صدورنا في مسائه الحزين، لا شك اهتزت الصورة، وقد تخوننا شجاعتنا، ولا نجد من يتحمل المسئولية، وبين الأحلام الكبيرة، والعقول الفارغة، وصوت الشعب، والأصوات النشازة تضيع ملامح الحقيقة، وبين حق استعادة الدولة، ودعوات الصمود، والتصعيد حتى النصر، وبين تصدع الصفوف، وعجز القيادات، وانعدام الرؤية، وغياب الحامل سياسي، وأيضا بحث المجتمع الأقليمي، والدولي عن تأمين مصالحه، لا نستبعد بأن تتجاوزنا الأحداث، ويستمر الكابوس في حياتنا لفترة طويلة، وبين غيرتنا على عدالة القضية، واحترامنا لقيمة التضحيات، وبين حاجتنا لجلد الذات، وتطهير نضالنا من رجس الشيطان تصبح الخيارات مرة، وأحيانا محرجة!.
كثير منا كان يدرك من اللحظة الأولى بأن بيان مليونية (14) أكتوبر (شطحة) ثورية، ومن يراهن عليها لن يستعيد برميلا واحدا، ولكن بصراحة لم نكتشف بأنه مجهول الهوية إلا في الأيام الأخيرة، وبعد أن تبرأ الجميع من رجسه.
لقد كان يراودنا أمل بأن تحرك معاناة المرابطين، والصابرين في الخيام ضمائرهم، ومواقفهم، ولم نطلب منهم أن يأتوا بمعجزة، ولكن كنا نتمنى إن كانوا عاجزين عن حمل المسك إلى الساحات، فأضعف الإيمان لا ينثروا مزيدا من الملح على جروحنا، وليس من العدل أن يصر بعضهم على حشرنا في عنق زجاجة نضالهم العقيم، ويعتقدون أن صك الوصايا على الجنوب في جيوب معاطفهم الوطنية.
نصف قرن ومازالت صفحة نضالنا مفتوحة، ومنذ بزوغ فجر الحرية، وخلع الثوار تاج جلالة الملكة (اليزابيث)، وزينوا رأس الجنوب بأكاليل الاستقلال، وشعبه الكادح يبوس التراب، ويلعن الظلام.. ثلاثون عاما ونيف، ونحن نحرس منجزات الثورة من الرجعية، وعملاء الإمبريالية، وفي لحظة سكر سياسي ثكلتنا وطنيتهم في نفق الوحدة، ومن ثم اندحروا من بابها الضيق، واعتكفوا عمرا بين جدران اللجوء والغربة، وكثير منهم خلعوا جلودهم، وعاشوا (وحدويين) يحرقون طيب الجنوب في مباخر (المنتصرين)، وتركونا أكثر من عشرين عاما في جحر المعاناة، وتلاحقنا لعنة (الانفصال)، ومن رحم هذه المعاناة ولد حراك شعب الجنوب قبل سبع سنوات، وبفضل تضحيات رجاله، وشبابه، وشيوخه، وحرائره، وأطفاله عادوا رموزا، وقادة، وأصبحوا روؤساء لدولة!..
إن هذا الشعب العظيم الذي رمى ماضيكم وراء ظهره، ونفخت إرادته الحية في روح نضالكم من جديد، وغفر لكم، وفتح ذراعيه للجميع يستحق أن تردوا له الجميل، وتستعيدوا له وطنه، وبدلا من أن تسد نعراتكم النضالية أفقه ابحثوا عن فسحة الأمل، وامنحوه الحياة عوضا عن صناعة الموت.
أصبحنا لا نميز بين الرأس، والذنب، فكل الثوار الأحرار، والمناضلين الأبرار من ناهزوا الثمانين، والذين مازالوا في مهد النضال يذرفون الدموع على الجنوب، وتتلوى ملامحهم ألما على شعبهم، ولكن حين نحتاجهم لا نجدهم، وكثير منهم مجرد أداة، ولا يملكون الحقيقة، ولايصنعون القرار!.