من التاريخ: جون لوك.. ونشأة الليبرالية الغربية

2014-08-21 02:22
من التاريخ: جون لوك.. ونشأة الليبرالية الغربية
شبوة برس - متابعات

 

إذا تتبعنا محطات نشأة التوجه الليبرالي في أوروبا، لوجدنا جذوره الفلسفية تمتد إلى قطاعين أساسيين في الحياة؛ هما: الفلسفة السياسية الحرة، التي أتت معها نظرية «السوق الحرة»، ومن هذين المنطلقين بدأت شجرة الليبرالية الغربية تنمو تدريجيا بوصفها نتاجا طبيعيا للتفاعل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الأوروبي، الذي بدأ يولد ثقافة مختلفة عن تلك التي سيطرت على أوروبا خلال القرون الوسطى وعلى رأسها السلطة المطلقة والإقطاع. ومع بزوغ حركة التجارة الدولية، وتطور آليات الإنتاج، وما تلا ذلك من انعكاسات اجتماعية بظهور طبقة «البرجوازية» وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى في القارة الأوروبية، كان من الطبيعي أن تبدأ الحركة الفلسفية الغربية في السعي للتأصيل لهذا التوجه الجديد نحو الفكر الليبرالي ليتم وضع القاعدة الفكرية لانطلاقته، ولكن في بعض المناسبات، فإن مثل هذه الحركات قد تسبقها.

لعل العمود الفقري للفكر الليبرالي الغربي يرتكز بكل تأكيد على فكر الفيلسوف السياسي الإنجليزي جون لوك Locke، ففكره يتزاوج تماما مع فكر آدم سميث في كتابه الشهير «ثروات الأمم»، ويمثل الأساس الليبرالي الذي تقوم عليه المجتمعات الغربية حتى اليوم، فجون لوك يمثل النتاج الطبيعي للثورة الإنجليزية، فلقد عاصر مخاطر الثورة التي اندلعت في الحقبة الرابعة من القرن السابع عشر، التي تلتها الديكتاتورية الدينية لأوليفر كرومويل، ثم عودة الملكية مرة أخرى على يد تشارلز الثاني الذي جرت الإطاحة به مرة أخرى فيما عرف بـ«الثورة العظيمة» The Glorious Revolution عام 1688، وهي الثورة التي وضعت أسس الملكية البرلمانية في إنجلترا، والتي أصبحت النظام السياسي لبريطانيا حتى يومنا هذا، الذي بمقتضاه يملك الملك ولا يحكم، وتكون السيطرة للبرلمان مع الإبقاء على الهوية البروتستانتية لإنجلترا. وقد كان من الطبيعي أن يكون لهذه الثورة فلاسفتها ومن يدافعون عنها، وكان جون لوك أبرز هؤلاء، ولم يعرف الرجل أن دفاعاته الفكرية عن الثورة الإنجليزية جعلت من كتاباته حجر الزاوية للفلسفة الليبرالية الغربية.

كتب جون لوك دراستين مهمتين في عام 1690 وهما المعروفتان باسم «The Two Treaties» ، ولكن الدراسة الثانية كانت أهم ما كتبه لأنها احتوت على فكره السياسي، فلقد وضعت الأسس الفكرية لما يجب أن تكون عليه الأنظمة السياسية في الدول، فبدأ فكره من منطلق أن الحكام لديهم مسؤولية سياسية أمام شعوبهم، وضرورة إخضاع السلطة السياسية لسلطة القانون، وقد رأى لوك أن سلطات الحاكم يجب أن تحدها الأخلاقيات العامة والقوانين والتقاليد، بالتالي كان من دعاة أهمية تحجيم الحكم المطلق، فاتخذ رؤية مختلفة للغاية عن المفكرين السابقين عندما تعامل مع فكرة الإنسان البدائي أو الإنسان في «حالة الطبيعة الأولى State of Nature»، فبالنسبة له، طبيعة الإنسان ليست سيئة كما افترض بعض من سبقوه، ذلك أنه لم يكن في حرب مع الجميع كما وصفه توماس هوبز على سبيل المثال، بل إنه رأى عنصر التعاون هو الغالب بوصفه أساس بناء المجتمعات التي يحتاجها الفرد، وذلك حتى يستطيع أن يصل إلى أهدافه الجماعية من خلال التعاون مع الغير، ومن ثم يكون البقاء الجمعي والتنظيم المشترك هو الأساس الذي يسعى إليه كل فرد. وقد رأى هذا الفيلسوف أن المجتمع الناشئ عن هذا الفكر يجب أن تحكمه مجموعة من القوانين الطبيعية والأخلاقيات العامة والتقاليد والقيم المجتمعية، وتكون هذه العوامل هي أساس التحجيم المفترض لسلطات الحكومات والملوك وضمانة لصيانة الحقوق والواجبات في الدولة.

وقد ارتكزت الفكرة المركزية للتوجه الليبرالي على أساس مفهوم الملكية الخاصة، أي الحق الأصيل للفرد في التملك وفقا لقدراته وعرقه وفكره، بل يمكن القول إنه الحق الأساسي الأول له بعد الحياة، وقد ارتبط هذا بطبيعة الحال بالظروف الدولية السائدة، فالقرن السابع عشر كان مبنيا على فكرة الهجرة الأوروبية للأميركتين، ومن خلالها نالت إنجلترا قسطا كبيرا من الأراضي في شمال أميركا، فلقد كان الهدف الأساسي لهذه الهجرة هو تملك الفرد للأرض في العالم الجديد بعدما ضاقت الفرص أمامه في موطنه الأصلي بسبب الإقطاع وانحسار الرقعة الزراعية، وبالتالي صارت فكرة الملكية شيئا مهمّا بالنسبة لمفكري هذا الوقت، لا سيما أن أوروبا لم تكن قد خرجت بالكامل من عصور الإقطاع بعد، ولهذا السبب جاء التقديس لمفهوم الملكية الخاصة، حتى إن جون لوك رأى أن هذا الحق يأتي قبل المجتمع ذاته أو الحكومة، ومن ثم لم يكن مستغربا أن يضع أولوياته على أساس «الحياة، والحرية، والملكية».

لم يكتفِ الرجل بهذه الفكرة الأساسية؛ بل إنه رأى أن السلطة السياسية في الدولة يجب أن تكون لها القدرة على سن القوانين من أجل حماية الملكية الفردية وصيانتها، وقد رأى أنه لتنفيذ ذلك يجب أن تدخل المجتمعات في «العقد الأصيل» الذي بمقتضاه يتنازل الأفراد عن بعض حرياتهم لصالح السلطة لتنظيم المجتمع، ورأى هنا أن هذه الخطوة حتمية من أجل بقاء المجتمعات.

وقد أجاز جون لوك الثورة التي رأى فيها ضرورة إذا ما استبدت السلطة السياسية بالأمر، ولكن هذا لا يمثل بالنسبة له سببا لحل المجتمع ذاته، بل حل للسلطة السياسية الحاكمة فقط، لارتباط المجتمع بـ«العقد الأصيل» بحيث تكون هذه السلطة مجرد مظهر من مظاهر التنظيم الداخلي، وعقب الثورة تعود السلطة الأساسية للمجتمع ذاته فيجري اختيار سلطات تنفيذية وتشريعية جديدة فيه.

وعلى هذه الأسس، بدأ الفكر الليبرالي السياسي يأخذ منحاه في المجتمعات الأوروبية انطلاقا من إنجلترا، وإن كان هذا لا يمنع من وجود مفكرين سبقوا جون لوك نحو هذا التوجه، ولكنه أصبح يمثل الأساس الذي جرى تدشين النظرية الليبرالية عليه. ويلاحظ أن أهم ما ميز فكر هذا الرجل كانت بساطته، وعدم ميله بشكل كبير نحو الفكرة المجردة التي اتسمت بها بعض كتابات الفلاسفة والمفكرين السياسيين. ويمكن إرجاع هذا إلى أن الرجل كان ابن عصره، وارتبط بالحراك السياسي للثورة الإنجليزية، وهو ما كان له أكبر الأثر في تبرير الثورة وما خلقته من ظروف سياسية عدّها كثير من المؤرخين الضوء الأخضر لبناء نظم سياسية أوروبية جديدة تكون أكثر انفتاحا لتضع نهاية لعصور سيادة مفهوم السلطة المطلقة للملوك، وقد نتج عن هذا التحرك، بطبيعة الحال، توجه جديد نحو مزيد من التسامح الديني في إنجلترا، وتبعتها أوروبا في مراحل متفرقة، فلقد رؤي كامتداد طبيعي لحقوق الملكية والحريات العامة أن تشتمل القائمة على حرية العقيدة بطبيعة الحال، خاصة أن إنجلترا كانت قد مرت بحرب أهلية وثورية كان السبب الأساسي لها هو الصراع الطائفي بين الإنجيليكيين الذين يمثلون الأغلبية، والكاثوليك الذين ارتبطوا بالملكية. وقد وضعت أفكار جون لوك تلقائيا فكرة حرية العقيدة على أساس أنها جزء من ثقافة الحريات المكملة بعضها لبعض، وقد كان من الطبيعي أن يضع هذا الفكر اللبنة الأولى لمفهوم التوازن بين السلطات المختلفة في الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية في البلاد، ولكن هذا الفكر لم يتطور إلا في مرحلة تالية خاصة مع فلاسفة مثل مونتسكيو الفرنسي في كتابه الشهير روح القوانين.

 

ومن خلال هذه المفاهيم التي وضعها جون لوك بدأت أوروبا تنتهج نهجا ليبراليا لم يكتمل بالشكل المناسب إلا مع ظهور الوجه الآخر للعملة السياسية الليبرالية، وهي نظرية آدم سميث وغيره ممن وضعوا فكرتي «آليات السوق» و«حرية التجارة» اللتين أصبحتا أساسا للفكر الرأسمالي الحر.. كما سنرى.

 

* د. محمد عبد الستار البدري - الشرق الأوسط