كُنْتُ في عدن

2012-08-15 09:39

سال القلبُ حين ابتدأَتْ عدن ، أحسست أن المدينة تدخلني كحوريِّة ( محمومه) في مخاض لقاء .

 كان المساء يزحف فوق بقايا لهيب النهار ، والهواء المالح محمولاً على الطرقات وسطوح المنازل ، فعدن حفيدة الشموس الأولى منذ ألف صيف ، وزنبقة البحور من قبل أن تستَتِبَّ المرافئ الى جوار برِّها.

هذه المدينه تتقدم نحوي ليذهبَ عميقاً نصلُ سَهْمِها إلى منتهى القلب ، ويصبح العقل ذائباً في زَبَدِ الذكريات . عدن خلاصةُ الدنيا تحيط بي الآن من كل الجهات ، ترُدُّ لي وجهي وأغصاني الصغيره ، وأرى ذلك العمر مازال ساجداً تحت رموشها الزرقاء ، فلَكَم صرتُ بعدها (يَبَاساً أو بقايا حَجَرْ ) .

لم أحس في الدقائق الأولى إنكسارات الزمن وعتمات التراب، فلم يعبر شيء في وجهي غير نثر المرايا والعبير المختبئ خلف أنفاس الفُلّ ، ولم تجاهرني الاشياء في منتصف المدينه بأنَّ وهجَ اليواقيت والّلازَوَرْد قد اختنق في وحل الغروب ، وأن النسيم قد (طلَّقَ الأقحوان) .

ما كنت أقوى على التفكير بأن المدينة لم تعد تلك التي غمَّسَتْ حَلَمَتها في حليب البراءَه .. وكانت تصحو على مرمر الصباح جسداً صاعداً وموجاً يحفُّ نسيم الأفق البعيد ، وحين تنام ينكمش الكون هانئاً في صينيَّةِ بنفسج .

لكأن قلبي لا يصدق ما تراه مقلتاي.

يشتدُّ الشقاق بين الذكريات التي تتهافت كالعصافير الصغيره وبين المشهد الذي أخذَتْ فيه الاشياء شكلاً مغايراً .

تمُرُّ الدقائق والطرقات ويشتعل الفصام ، والمساء يذوب في نسيج الرطوبه ، ويلوح من مكان ما في أقطار النفس حزنٌ لَفَّ ضباب النشوه.

لا بأس يا سيدة الحقائق ! فعلى ضواحيك ومداخلك وفْرَةٌ في نقاط التفتيش ، وفيك شحَّةٌ في الحياة المدنية الطبيعيه ، مصابة بالدماء والفقر والمجاعة الكهربائيه وهناك نضوب للفرح .. فالذنوب التي وقعت عليك تفوق طاقة الغفران عندك.

إقتربتُ من فندق ( الميركور) في طريقي لحضور ندوة حول ( الحوار الجنوبي الذي نريد ) ، وصلته متاخراً قليلاً بعد أن إستنزفني اختلاط المشاعر وكدت أغرق في أواسط موجها ، جلستُ أمام وجوه كثيره لا أعرف منها سوى القليل جداً.

إستمعت الى كلمة صديقي د/ سعيد الجريري في المستَهَلّ ، أخذني بلغته الجديده حديث جامع أخرج كل الدلالات من صلب لغةِِ مثقف أكاديمي مقتدر .

إلا انه لم يدرك حين اختتم حديث الافتتاح واهداني كتاب الشعر الذي ألَّفه بالعامية الحضرميه ،أنه قد وضعني على مفترق حاد بين مجريات الندوه والقصيدة .

فالقصيدة تسبقني دائماً وتحدد الارض التي أقف عليها.

تصفحت الكتاب ( بخيته ومبخوت) ، غرقت في جمال الشعر العامّي منذ أول وهله وفي مفردات اللهجه الحضرميه البالغة الثراء والخصوبه والغنيه بالحِكَم والامثال ، فوجدت نفسي أمام تجربة فريده تنهل من منابع الأصاله وتعيد صياغتها بروح حداثيه تحمل مدلولات فنيه ، اجتماعيه وسياسيه. ومع عجزي عن فهم موسوعة العامّيه الحضرميه الا أن الموسيقى التي ألِفْناها في الشعر الحضرمي كانت هنا أكثرَ سحر ، لكأَنَّ حبر الكلمات مصنوع من مقامات لحن رخيم .

هكذا وجدت نفسي منشقاً بشكل إنقلابي عن العصف السياسي وكان عليَّ أن اسمع حيناً عبارات المتحدثين الغليظه وأصغي ( لرقرقة) القصائد التي شاغلت الحاسَّةَ الغامضه في الوجدان .

ومع أن الندوة أخذت طابعاً مهنياً وكانت تدريباً حقيقياً لتنمية فكر الحوار الذي لم نألفه، الا انني اصبحت بين هِلالَيْ ( الاستماع والقراءة) . وحين تتداخل في منحنيات الادراك ما يتردد من الحاضرين وما أقرأ ، كنت أحس بان اللفظ السياسي الخشن بطبيعته يشوي رحيقَ الزهر الطالع من متعة الشعر وكانت بعض فونولوجيا اللهجة السياسيه السائده كالصهيل الذي يشرخ صلاة البنفسج وينتهك ( بَسْمَلَةَ الندى ) .. فالسياسي ينتهي عند مخارج اللفظ بينما الشاعر يبدأ فضاءه خلف العالَم الحسِّي .

لَكَمْ نحن بأمس الحاجه الى خطاب المثقف كاضافة نوعيه تنقذنا من الغرق في تفاصيل الخطبة القديمه واصطلاحاتها المستهلكه.

بعد منتصف تلك الليله في العاشر من رمضان أدركني التعب الشديد بفعل السفر والأرق ، ودون أن أُوَدِّع أحد خرجت من الندوه الغزيره برشاقةٍ مذهله حاملاً معي كتابَ الشعر.

خَلْف الميركور كانت عدن مكتظَّة بالظلام تتصاعد أنفاسها كأبخرة ساخنه تنذر بصرخة ( فولكانو) . مشيت وحيداً دون ملامح كوعاء ممتلئ بالرماد .

تذكرت عدن كيف كانت تفوح منها السكينه وكنا نحسب أن العمر لن ينتهي فيها وسنبقى أطفالاً أو شباباً نكتب الشعر للقمر الفضًّي ولموجة عابره فوق منعطف الجسد.

عدن أجمل مدينه يديرها كوكب الارض نحو الشمس ، يسودها الآن ظلامٌ وصيفٌ جارحٌ كأنه يسكب صهارة ( البازلت) على الارواح المنهكه ... وهناك شبحُ ( حسن الصبَّاح) وهو يوزع جنده على المرتفعات ، بينما بقيَ ( الخيَّامُ) وحيداً يعاقر نبيذه السمَرْقَنْدي ، يُدَوِّنُ رباعياته ويحرس النجوم بمرصده العتيق .

هكذا رأيت كل شيء خارج الميركور ولم أعد أتذكر كيف تصادت مشاعر الحزن والخوف على عدن مع كلمات درويش :

( أحمد الآن الرهينه
 تركت شوارعها المدينه
وأتت اليه لتقتله ....)

والحقيقه أنَّ المدينه لم تترك شوارعها ولم تأت لتقتل أحد ، لكن العشق والموت حين يتشاطئان يزداد الحب كثافةً لابساً جلباباً سميكاً من الخوف ، ويتحول القلب الى صفافةٍ من الدمع.

بعد يوم ومسائين تركت عدن وفي فمي بعض وداعيَّتي القديمة الحزينه:

    ترَكْتُ المدى لاشتعال            

   النوارس ،

   لترحلَ خارج هذا الزمان

   وتطفئ خلفي عيونَ 

    الصبايا..

   وداعاً عدن !

   والمساءاتُ تدخل في

   صمتها كالجواري ..

   تراقب آخِرَ هذا الرحيل

 وتنثرُ عُمْري هناك

   شظايا.....