الجنوب العربي والطارئون على السياسة بعد 1967

2025-11-27 07:23

 

‏منذ عقود طويلة، افتقد الجنوب العربي روح التنافس السياسي المدني الذي يصنع القادة، وينمّي الكفاءات، ويثري الحياة العامة. فبعد 30 نوفمبر عام 1967، حين سيطرت الجبهة القومية على المشهد وأقصت القوى والأحزاب الأخرى، ثم مارست التهجير والسجن والقتل بحق خصومها، انطفأت ديناميكية السياسة، وتحول المجال العام إلى صوت واحد مغلق، لا يفرز قيادات حقيقية، بل أزمات وانقلابات متتالية.

 

جيل ما قبل 1967 كان مدرسة سياسية متكاملة: شيخان الحبشي، قحطان الشعبي، فيصل الشعبي، محمد علي الجفري، عبدالله الأصنج، حسن علي بيومي، عبدالقوي مكاوي، عبدالله باذيب وغيرهم من رجالات السلاطين الذين صقلتهم بيئة سياسية حيّة مليئة بالحرية والمسؤولية والصراع الناضج. كانوا أبناء مرحلة سياسية حقيقية، تتوفر فيها أدوات العمل وضغوطه ومناخه الطبيعي الذي يفرز القادة ويهيئهم للحكم.

 

لكن من جاء بعدهم أضاع البوصلة. وجدوا أنفسهم في ساحة فارغة بلا منافسين، بلا تعددية ولا صراع سياسي ناضج. فتحول التنافس بينهم إلى تناحر دموي وانقلابات، وانتهى الأمر بتسليم دولة الجنوب إلى سلطة صنعاء، وكأنها هدية من لا يملك لمن لا يستحق، قُدمت لشبكة عصابات في صنعاء من أبشع الأنظمة السياسية في المنطقة.

 

هذا الاستئصال الطويل للعمل السياسي، وغياب رجال السياسة خلال مرحلتي القومية والاشتراكي، خلّف حالة ضياع اجتماعي واسعة. وزاد الضياع عمقًا بعد الدخول في مشروع وحدة فاشل تحت هيمنة صنعاء، حيث وقعت فئات جنوبية كاملة في فخ تلك الهيمنة نتيجة غياب الوعي السياسي بالمؤامرة التي صاغها مهندسو "اليَمننة".

 

واليوم، رغم كثرة الوجوه التي تُسمى قيادات جنوبية، إلا أن معظمهم لا يمارسون السياسة فعلًا. فغياب الاحترافية، والجهل بالعلاقات الدولية، وندرة المعرفة الحقيقية بآليات العمل السياسي، جعلا الكثير منهم مجرد أدوات في صراعات شخصية وفئوية، لا قادة قادرين على إعادة البناء أو حمل مشروع وطني جنوبي جامع. جوهر الأزمة ليس في كثرة الأسماء، بل في الفراغ البنيوي الذي خلّفه الاستئصال السياسي، وهو الفراغ الذي سمح بظهور هؤلاء الطارئين بلا أساس أو رؤية.

 

إن الواقع الجنوبي اليوم يفرض إعادة نظر جذرية في طبيعة العمل السياسي، عبر خلق بيئة تنافسية مدنية حقيقية تحترم الاختلاف، وتفسح المجال لولادة قيادات كفؤة، متخصصة، وملتزمة بمشروع وطني توافقي، بعيدًا عن الفئوية والانقسام.

 

الجنوب في أمسّ الحاجة إلى رؤية وطنية جديدة تعيد الاعتبار لروح الصراع السياسي الشريف، باعتباره نبض حياة الشعوب ومحرك أي مشروع للتحول والبناء. وبدون استعادة هذه الروح، سيظل الكثير من الطارئين على السياسة مجرد ظلال بلا أدوات تأثير أو قدرة على صناعة التغيير.