منذ فجر الحضارة، والبشر يسعون لتنظيم حياتهم بوضع القوانين والقواعد.
ففي بلاد الرافدين، سُطِّرت أولى تلك القواعد على ألواح طينية، عُرفت لاحقًا باسم "ألواح حمورابي"، بينما نحن اليوم نعيش تحت سلطة "ألواح الطاقة" التي تحدد إيقاعات حياتنا وسرعة تقدمنا أو تأخرنا. فكيف تغيّرت قواعد اللعبة؟ وهل نحن نتحكم بها أم أنها تتحكم بنا؟
ألواح حمورابي كانت محاولة لتنظيم المجتمع، لحماية الضعيف من القوي، ولتحقيق العدالة بحسب رؤية تلك المرحلة. كانت تلك القوانين واضحة، محفورة في الصخر، تُقرأ على العامة وتُطبّق على الجميع (نظريًا) أما اليوم، فألواح الطاقة – من شبكات الكهرباء إلى بيانات الإنترنت – تُدار بأنظمة خفية، تتحكم بها شركات كبرى ودول عظمى، وتعيد تشكيل علاقتنا بالسلطة والعدالة والحرية.
من يمتلك الطاقة يمتلك القرار، ففي العصر الحديث، لم تعد السلطة فقط بيد من يملك الجيوش أو المال، بل أصبحت بيد من يتحكم بالتيار الكهربائي، بالذكاء الاصطناعي، بخوارزميات الذكاء والتحليل، ألواح الطاقة الحديثة – الألواح الشمسية، مراكز البيانات، محطات التوليد – تُملي علينا نمط حياتنا، وتعيد تشكيل الاقتصاد والسياسة والتعليم والإعلام.
الفرق بين قوانين الأمس واليوم أن الأولى كانت معلنة، بينما قواعد اليوم تُكتب في الخفاء، وتُمرّر على هيئة خدمات أو تحديثات أو اتفاقيات استخدام لا نقرأها.
نحن الآن خاضعون لمنظومة معقدة من الشروط التقنية التي نجهل معظمها، ولكننا نلتزم بها لأننا ببساطة لا نستطيع العيش خارجها.
ربما لم يتغير شيء. فالإنسان منذ الأزل يبحث عن سلطة مرجعية تضبط إيقاع حياته، لكن الفرق أن تلك السلطة تحولت من معبد أو ملك إلى شبكة كهرباء أو مزود خدمة إنترنت. وبنفس الطريقة التي فرض بها حمورابي قوانينه، تفرض علينا أنظمة الطاقة الحديثة طريقتها في العيش.
قواعد اللعبة تتغير، لكن اللعبة ذاتها لا تنتهي. ما بين لوح طيني نقشت عليه أولى القوانين، إلى لوح شمسي يولد الطاقة لعالم معقد، تتجدد السلطة، ويُعاد رسم حدود الحرية والمسؤولية. والسؤال الآن: من يضع القواعد حقًّا؟ ومن يجرؤ على إعادة كتابتها؟
في الجنوب، حيث يُصارع الناس من أجل استعادة كيانهم السياسي وهويتهم التاريخية، نجد أنفسنا اليوم في صراع جديد ليس فقط من أجل الأرض والسيادة، بل من أجل "قواعد اللعبة" ذاتها. فما زال كثير من قوانيننا محكومة ببقايا أنظمة بائدة، من مخلفات الوحدة المفروضة، بينما واقعنا الجديد يحتاج إلى "ألواح قانونية جنوبية" تُكتب من رحم التجربة، وتُلائم طموحات الناس في عدالة وشفافية وحكم رشيد.
كما أن البنية التحتية للطاقة – بكل رموزها الحديثة من كهرباء ونت وبيانات – أصبحت أداة تحكم جديدة. فعندما تُقطع الكهرباء عن مدينة أو يُحرم حي من الخدمة، لا يكون الأمر تقنيًا فقط، بل هو قرار سياسي يحمل دلالة السيطرة والعقاب.
إن استعادة الدولة الجنوبية لا تعني فقط رفع علم أو إعلان سيادة، بل تعني إعادة صياغة ألواح اللعبة، تشريعًا وتنظيمًا وتنفيذًا، من خلال منظومة قانونية حديثة تنبع من الإرادة الشعبية، وتضمن الشفافية والمحاسبة، وتحمي حقوق الإنسان الجنوبي دون تمييز أو استغلال.
إن مسؤولية إعادة كتابة "ألواح اللعبة" في الجنوب لا تقع فقط على عاتق المؤسسات السياسية، بل هي مسؤولية جيل كامل من الشباب والنخب القانونية والمثقفين، ممن يملكون الجرأة والمعرفة والرؤية. فاليوم، لا يكفي أن نطالب بالعدالة أو نحلم بالاستقلال، بل يجب أن نرسم ملامح دولة تُكتب قوانينها من جديد، تُدار طاقتها بعقل وضمير، ويُصاغ دستورها بما يليق بكرامة الإنسان الجنوبي.
إن المعركة الحقيقية لم تعد فقط في الميدان، بل في النصوص، في تشريعات تُحاكي العصر وتحمي الحقوق، وتكسر منطق الهيمنة القديمة، سواء كانت على هيئة دبابة أو على شكل زر تحكم في شبكة كهرباء أو انقطاع مقصود في خدمة اتصالات.
وهنا، يتوجب على النخب القانونية أن تتحول من موقع التفسير إلى موقع التأسيس، ومن منطق التبرير إلى منطق البناء، لتكون هي من ينقش على الألواح الجديدة، باسم الشعب، قواعد اللعبة العادلة.