حين يتكرّر التاريخ، لا يفعل ذلك من باب المصادفة، بل لأنه يملك ذاكرة أكثر وفاءً من الإنسان.
ما نراه اليوم من تصاعد الزخم التعبوي للتيارات المتشددة، سواء الدينية أو القومية، ليس سوى نسخة مكررة من روايات فاشية ونازية ويسارية وصهيونية وليبرالية سبقتنا على طريق الصراع والدمار. وفي كل مرّة يتهاوى العالم أمام أزمة كبرى، تولد هذه الأيديولوجيات من رحم اليأس الشعبي، وتتنفس من هشاشة الطبقة الوسطى وسذاجة العامة، حيث تتغذى على الشعارات البسيطة والمقولات المطلقة.
لكن إن شئنا الحديث عن التجربة العربية، فإن ما حدث مع ما سُمّي بـ"الربيع العربي" لم يكن مفاجئًا في حقيقته. فمن الطبيعي، حين ينسحب التيار العلماني والليبرالي من المشهد، أن يتقدم التيار الديني لسدّ الفراغ. هذا قانون فيزيائي أكثر مما هو سياسي: الطبيعة تكره الفراغ، والأيديولوجيا تعشقه. وما ملأته الجماعات الدينية لم يكن مشروعًا مدنيًا بقدر ما كان وهمًا لاستعادة "المجد الضائع" في سردية الخلافة والتمكين.
غير أن الفشل لم يتأخر. إذ سرعان ما اصطدم هؤلاء بحقائق العصر التي لا تقبل "الوصاية العقائدية"، فعجزوا عن تحويل خطب المنابر إلى سياسات حكم، وسرعان ما سقطت أقنعتهم عند أول اختبار للسلطة. هنا، وكما العادة، لجؤوا إلى المظلومية والحديث عن "المؤامرة"، كأن الإخفاق لا يكون إلا بفعل خارجي، وكأن عقلهم الجمعي غير معطوب أصلاً.
الحقيقة أن ما يعانيه خطاب هذه التيارات ليس فقط ضعف الفكرة، بل التناقض المزمن بين ما تُعلنه وما تُنجزه. شعارات براقة عن "النهضة"، لكن الممارسة تمضي بنا إلى هوة الاستبداد. نزعة مهووسة بالسيطرة على مؤسسات الدولة، لكن قدرة منعدمة على تدبير شؤون الناس. إنها مفارقة لا تُفسَّر إلا بكونها انعكاسًا لعقل مأسور بين ماضٍ خرافي وحاضر لا يرحم، عقل مأزوم مشدود إلى سرديات خيالية عن "المدينة الفاضلة"، ويائس من بناء دولة قابلة للحياة.
في هذا الصراع، تختلط الميثولوجيا بالديماغوجيا. تجد في كل خطاب للتيارات المتشددة طيفًا من "المدينة المفقودة"، حلمٌ مستحيل يستدعي التضحيات، ويخلق من الأتباع جنودًا مؤمنين لا يحتاجون إلى أدلة، فقط إلى تعليمات. وهذا ما يُفسّر كيف يُنتج هذا الفكر كائنًا سياسيًا غارقًا في عقدة النقص والانتظار، عاجزًا عن صناعة الحاضر، مهووسًا بملاحقة "سراب" الماضي.
وفي العمق، إن ما نراه من تمجيد للزعيم، وتقديس للمشروع، واستعداء للمخالف، ليس سوى تجليات لـ"مكبوت سياسي" ظلّ حبيس اللاوعي الجمعي لمجتمعات تعاني من أزمات هوية وانفصام تاريخي. المشروع السياسي المحافظ، سواء الديني أو القومي، ليس سوى محاولة تعويض مريضة لفقدان الثقة في الذات الجماعية. ومن هنا تنبع نزعته الإقصائية، رغبته في شيطنة الآخر، واحتكاره لمعنى الحق والحقيقة.
في هذا السياق، لا يمكن الفصل بين "الوهم الديني" و"الوهم القومي"؛ كلاهما يتغذى من نفس الثنائيات الساذجة: "مؤمن/كافر"، "وطني/عميل"، "تابع/مُضلل". أما الفضاء السياسي، فيُختزل في مبارزة فقهية أو طائفية أو شعاراتية تُغيب فيها البرامج وتتقدّم فيها الفتوى.
ومع ذلك، لا يزال السؤال مفتوحًا: هل يمكن لفكر سياسي مأخوذ بوهم "الخلافة" أن يقود مجتمعات نحو الحداثة؟ هل يمكن لعقل ماضوي، مهووس بالنقاء العقائدي، أن يُنجز عقدًا اجتماعيًا عصريًا؟ كيف يمكن لتيارات تعيش في لا وعي التاريخ أن تؤسس دولة قانون ومواطنة؟
الجواب، كما تُظهره التجربة، لا يحتاج إلى تنظير. لقد فشلت هذه التيارات في تونس ومصر واليمن وسوريا والعراق ولبنان، ليس بفعل قوى خارجية، بل لأن مشروعها ذاته كان مُفخخًا بالتناقضات. فهي لا ترى في الدولة سوى وسيلة تمكين، ولا في السلطة سوى فرصة احتكار، ولا في الناس سوى رعايا مؤمنين أو خصوم منحرفين.
ولعلّ أخطر ما في هذا الخطاب هو طابعه التبريري العنيف. فهو لا يكتفي بالإقصاء، بل يستبطن استباحة الخصم، لغويًا أولًا، ثم ماديًا. فالخطاب يبدأ بتجريد الآخر من الوطنية، ثم من العقيدة، ثم من الإنسانية. وهكذا، تتحوّل السياسة إلى محرقة رمزية، تسبق غالبًا محرقة مادية.
هنا يكمن الخطر الحقيقي: حين يتحوّل التنافس السياسي إلى "صراع وجود"، لا يبقى للسياسة من معنى. يصبح الكل مشروع ضحية، وكل خلاف مشروع فتنة. وحين يُعاد تدوير المعجم اللاهوتي في الممارسة السياسية، يصبح الحديث عن الديمقراطية والعدالة والمواطنة أشبه بنكتة سوداء.
إنّ ما تحتاجه مجتمعاتنا اليوم ليس خطابات ماضوية جديدة، بل شجاعة نقدية تُعيد ترتيب علاقتها مع الدين والتاريخ والهوية. لا خلاص مع فكر لا يرى في الدولة سوى ظل لله على الأرض، ولا في المواطن سوى تابع لوليّ الأمر. كما لا حلّ مع تيارات ترفض التنوّع، وتخشى النقد، وتختزل الدين في شعارات سياسية جوفاء.
لقد آن الأوان لنكفّ عن تبرير فشل هذه التيارات بـ"مؤامرات" الخارج، ونواجه الحقيقة: هذا الفشل نابع من خلل جوهري في بنية الفكر نفسه. فكر يهرب من العصر، ويلاحق السراب، ويُقدّس الزعيم، ويُجرّم العقل.
الخروج من هذا المأزق لا يكون إلا بإعلاء صوت العقل النقدي، وتحرير السياسة من قبضة المقدس، ورفض كل مشروع يُراد له أن يُحكم باسم الله، ويُنقض باسم التاريخ.
فالدولة ليست مسجدًا، ولا قبيلة، ولا زاوية. الدولة عقد، والديمقراطية ليست خيانة، بل وسيلة النجاة الوحيدة من جحيم الأيديولوجيا.
*- العين الإخبارية