صورة تعبيرية من أرشيف شبوه برس
"يمكن القول إن نقل تجربة الفصائل السورية المعارضة، إلى اليمن، يرتبط كليا بالموقف السعودي، كون معظم التشكيلات اليمنية المسلحة مرتبطة بالسعودية، وتتلقى الدعم منها."
*- شبوة برس - سوث24 | إبراهيم علي
لم يعد الصراع في سوريا مجرد حرب أهلية محلية، بل تحول إلى ساحة صراع إقليمي ودولي معقد تتداخل فيه مصالح قوى إقليمية ودولية كبرى. هذا التحول الجذري في طبيعة الصراع يجعل من الصراع السوري جزءًا لا يتجزأ من الصراع الإقليمي الأوسع بين القوى المتصارعة في المنطقة، ولا سيما الصراع الإيراني - الإسرائيلي. تجلى ذلك بوضوح من خلال التصعيد الأخير لفصائل المعارضة السورية ضد قوات النظام في شمال غرب سوريا.من جهتها، تعتبر إسرائيل الصراع في سوريا ساحة حرب بالوكالة ضد إيران وحلفائها، حيث تسعى إلى تقويض النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة وحماية حدودها الشمالية من التهديدات التي تشكلها إيران وحزب الله. وبدورها، تسعى إيران إلى تعزيز نفوذها في سوريا وتأمين ممرات إمداد لحزب الله في جنوب لبنان، وكذلك مواجهة التمدد الإسرائيلي في المنطقة.
كما تلعب الولايات المتحدة الأمريكية دورا محوريا في هذه المعادلة المعقدة، إذ تسعى لتحقيق توازن في القوى في المنطقة وضمان مصالحها الاستراتيجية. تتراوح هذه المصالح بين منع هيمنة أي قوة واحدة على المنطقة، وحماية مصالح حلفائها، ومحاربة التنظيمات الإرهابية مثل داعش.
من هنا، باتت السردية التي تربط التطورات الأخيرة في سوريا بالصراع الإيراني - الإسرائيلي هي السردية شبه السائدة، وذلك لأنها تصب في صالح إسرائيل وتفسّر الدعم الذي تقدمه دول إقليمية لفصائل المعارضة السورية. لكن رواية أخرى تقول إن هذه الفصائل استغلت ضعف حزب الله وانشغال روسيا في أوكرانيا لشن هجماتها الأخيرة.
ومع أن تركيا تبرز كمتهم أول بدعم هذه الفصائل المعارضة، إلا أنَّ هذا الدعم لا يمكن أن يتم دون غض طرف أمريكي، لأسباب تتعلق بالصراع الإسرائيلي - الإيراني وأيضًا الصراع الروسي - الأوكراني. فتركيا، بصفتها عضوا في الناتو وحليفًا للولايات المتحدة، تلعب دورا مهما في استراتيجيات الولايات المتحدة في المنطقة، وخاصة في مواجهة النفوذ الروسي والإيراني.
الحرب بالوكالة: حل استراتيجي أم ورطة معقدة؟
تُعتبر الحرب بالوكالة في سوريا نموذجًا مثاليًا على كيفية تجنب القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، تكاليف الحرب المباشرة مع أذرع إيران. فبعد تجربة لبنان، التي أثبتت أن الحرب المباشرة مكلفة للغاية، ربما اتجهت هذه القوى إلى دعم فصائل معارضة في سوريا لتحقيق أهدافها دون الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران وحلفائها.
من الجدير بالذكر أن أهداف خصوم إيران في الدول العربية، مثل إسرائيل والسعودية ودول الخليج عامة، تختلف عن بعضها البعض. فبينما تسعى إسرائيل إلى إضعاف حزب الله ومنع إيران من ترسيخ وجودها العسكري على حدودها الشمالية، تسعى دول الخليج إلى الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة بشكل عام وحماية أمنها الوطني. ومع ذلك، فإن جميع هذه الأطراف تتفق على استخدام أداة الحرب بالوكالة لتحقيق أهدافها، حيث تعتبر هذه الأداة أقل تكلفة وأكثر مرونة من الحرب المباشرة.
يطرح هذا السيناريو تساؤلات مهمة حول إمكانية انتقال النموذج السوري إلى اليمن. فاليمن، شأنه شأن سوريا، يشهد صراعا معقدا تتدخل فيه قوى إقليمية ودولية. وتلعب إيران دورا مهما في دعم الحوثيين، كما تدعم السعودية والإمارات الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا.
نقل التجربة
في هذا السياق، يمكن القول إن نقل تجربة الفصائل السورية المعارضة، إلى اليمن، يرتبط كليا بالموقف السعودي، كون معظم التشكيلات اليمنية المسلحة مرتبطة بالسعودية، وتتلقى الدعم منها. لكن، ومنذ مدة، تشهد الساحة اليمنية حالة من الجمود العسكري النسبي، رغم استمرار العمليات العسكرية منخفضة الشدة. ويأتي هذا الجمود في ظل تحفظ سعودي واضح على التصعيد، وهو تحفظ يرتكز على عدة عوامل، أبرزها الخشية من هجمات انتقامية حوثية، وتأثير ذلك على الأمن والاستقرار الداخلي للمملكة. وقد أثبت الحوثيون قدرتهم على شن هجمات صاروخية وبطائرات مسيرة تستهدف أهدافاً حيوية داخل السعودية، مما يجعل المملكة حذرة من أي تصعيد قد يستفز الجماعة ويؤدي إلى ردود فعل عنيفة.
هذا إلى جانب التكاليف الباهظة للحرب، فقد استمرت الحرب في اليمن لسنوات طويلة، وتسببت في خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، فضلاً عن تدهور الأوضاع الإنسانية. لذلك تسعى السعودية إلى إنهاء هذه الحرب بتكلفة أقل. كما تواجه السعودية، في الوقت ذاته، انتقادات دولية واسعة بسبب تدخلها في اليمن، وتخشى من أن يؤدي أي تصعيد جديد إلى زيادة هذه الانتقادات. لكنَّ وجود الحوثيين في خاصرتها الجنوبية، يشكِّل تهديدا كبيرا لأمنها القومي، والتوصل إلى اتفاقات أو حلول سياسية معهم، لا يمثل حلا جذريا لهذا التهديد، خصوصا وأنهم لا يتجاوبون مع أي حل لا يضمن لهم مكاسب سياسية وعسكرية. غير أنَّ التخوف السعودي من التصعيد العسكري ضد الحوثيين في اليمن، ربما يعود إلى عدم ثقة المملكة بالموقف الأمريكي، وهو ما يعني أن مخاوف الرياض من التصعيد قد تتراجع خلال فترة حكم الرئيس ترامب.
وبالرغم من أن السعودية رفضت المشاركة في تحالف "حارس الازدهار" لمواجهة عمليات الحوثيين في البحر الأحمر، إلا أنَّ لرفضها حسابات خاصة، تتعلق بأهداف هذا التحالف الذي لم يكن هدفه القضاء على الحوثيين بقدر ما كان هدفه رفع الحصار البحري عن إسرائيل. وللسعودية تجربتها الخاصة مع إدارة بايدن حين يتعلق الأمر بالحوثيين. إذ سبق لهذه الإدارة أن وجهت للملكة انتقادات لاذعة وللتحالف العربي بشأن حرب اليمن، كما أوقفت دعمها لها، وعلقت بيع أسلحة وذخائر لجيشها، ورفعت الحوثيين من قائمة الإرهاب. بمعنى أن التحولات في السياسة الأمريكية، مع تغير الإدارات، قد تغير أيضًا سياسة واشنطن تجاه اليمن، مما يؤثر على قرارات السعودية. والأهم من ذلك، هو أن السعودية تدرك أن استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى تآكل نفوذها في اليمن، وتعزيز نفوذ إيران.
كما تدرك المملكة أنَّ الحوثيين يعرفون جيداً التحفظ السعودي، ويستغلونه لتحقيق مكاسب ميدانية وسياسية. فهم يراهنون على أن السعودية لن تخاطر بشن هجوم واسع النطاق، مما يمنحهم مساحة أكبر للمناورة والتوسع. ومع أن التحفظ السعودي يساهم في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، إلا أنه يمنح الحوثيين فرصة للتوسع وتعزيز نفوذهم.
مخاوف.. وتحركات استباقية
في الوقت الذي تراهن فيه جماعة الحوثي على ورقة تهديد المملكة العربية السعودية لردع أي تصعيد عسكري محتمل، تكشف التحركات الأخيرة للجماعة عن مخاوف عميقة من تكرار السيناريو السوري على الأراضي اليمنية. ففي حين تشهد المنطقة تحولات جيوسياسية متسارعة، يبدو أن الحوثيين يسعون جاهدين لتقوية أوراقهم الداخلية والخارجية تحسبا لأي طارئ.
ومن أبرز هذه التحركات، عودة الجماعة إلى مناقشة قضية صرف مرتبات الموظفين الحكوميين، وهي قضية عالقة منذ سنوات. هذه الخطوة غير المسبوقة، التي تأتي في ظل غياب أي تغييرات جوهرية على الساحة المحلية، تشير إلى أن الحوثيين يدركون جيدا أهمية كسب تأييد الشارع اليمني في ظل التهديدات الخارجية المحتملة. فمن خلال معالجة هذه القضية الملحة، تسعى الجماعة إلى تضييق الخناق على خصومها وتقويض أي محاولات لتعبئة الرأي العام ضدهم. لقد بدا واضحا أن العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام المحسوبة على الجماعة، ربطت بين التحركات شمالا لبدء صرف المرتبات، وتراجع الأمر جنوبا. خلال الفترة الماضية، كان التركيز كبيرا على إبراز ما تقول وسائل إعلام الحوثيين إنه تدهور للوضع المعيشي والاقتصادي في جنوب اليمن.
تشير التحركات الحوثية الأخيرة إلى خشية المليشيا من تكرار السيناريو السوري، حيث أدت التدخلات الخارجية إلى حرب أحدثت تغييرا كبيرا في ميزان القوى، وخلفت أزمة إنسانية حادة. كما أنه وفي ظل الضغوط الدولية والإقليمية المتزايدة، تسعى الجماعة إلى تعزيز شرعيتها لدى الشعب اليمني من خلال تقديم بعض التنازلات، مثل صرف المرتبات.
وفي المحصلة، يبدو أن الحوثيين يستعدون لأي تطورات مفاجئة على الساحة اليمنية، سواء كانت عسكرية أو سياسية، ويسعون إلى تأمين موقعهم في ظل هذه التطورات. فبينما تراهن الجماعة على ورقة التهديد، فإنها في الوقت نفسه تبحث عن سبل لتعزيز شرعيتها وتأمين الجبهة الداخلية أيضا.
عوامل مشجعة: هناك تشابه كبير بين الوضع في سوريا واليمن، إذ تدعم إيران في كلا البلدين جماعات مسلحة وتسعى إلى توسيع نفوذها.لهذا قد تدفع عدة عوامل إلى نقل الصراع في سوريا إلى اليمن، منها:
• الرغبة الإسرائيلية في توسيع رقعة الصراع مع إيران.
• الضغوط الأمريكية على إيران وحلفائها.
• استمرار الهجمات الحوثية في البحر الأحمر وعلى إسرائيل.
عوامل مثبطة: كما أنّهناك عوامل أخرى قد تحد من نقل الصراع، منها:
• التكاليف الباهظة لأي حرب واسعة النطاق.
• المخاوف من زعزعة استقرار المنطقة بشكل أكبر.
• الرغبة الدولية في حل الأزمات بالطرق السلمية.
• الاكتفاء بإيصال رسالة تهديد إلى إيران من خلال التصعيد في مناطق نفوذ الأخيرة بسوريا.
الإمكانية العسكرية
رغم التقدم الملحوظ في القدرات العسكرية لمليشيا الحوثي خلال السنوات الأخيرة، إلا أنها لم تتمكن من تحقيق نصر حاسم في المواجهات البرية. فالتوازن العسكري الهش في اليمن، والذي يتأثر بعوامل سياسية ودولية متعددة، حال دون تحقيق أي من الأطراف انتصارا قاطعا، باستثناء ذلك الذي حققته القوات الجنوبية في جنوب اليمن في السنوات الأولى من الحرب.
وفي هذا الصدد، تُظهر العديد من الأمثلة التاريخية للصراع اليمني دور القوى الدولية في التأثير على مساره. ففي عام 2016، عندما اقتربت قوات الحكومة اليمنية من استعادة العاصمة صنعاء، تدخلت الولايات المتحدة وأصدرت تحذيرات صريحة بضرورة وقف العمليات العسكرية. وفق رئيس البرلمان اليمني سلطان البركاني. وتكرر السيناريو نفسه في محافظة الحديدة عام 2018، حيث تم إجبار القوات المشتركة على التراجع تحت ضغط دولي.
من جانب آخر، فشلت جماعة الحوثي في تحقيق هدفها الاستراتيجي المتمثل في السيطرة الكاملة على محافظة مأرب الغنية بالثروات، رغم المحاولات المتكررة.
السيناريوهات المحتملة
ثمة مجموعة من السيناريوهات المحتملة للتصعيد العسكري في اليمن، أبرزها:
• معركة مفتوحة: إطلاق عملية عسكرية واسعة ضد الحوثيين على أكثر من محور، كما هو حاصل في سوريا.
• تصعيد محدود: قد يشهد الصراع في اليمن تصعيداً محدوداً، يتمثل في تبادل الهجمات بين الطرفين، دون الوصول إلى حرب شاملة.
• إضعاف جزئي: قد يهدف التصعيد المتوقع إلى إضعاف الحوثيين جزئيا، من خلال انتزاع بعض المحافظات من سيطرتهم، كمحافظة الحديدة الساحلية ومحافظة البيضاء.
• حل سياسي: قد يتم التوصل إلى حل سياسي للأزمة اليمنية، من خلال مفاوضات بين الأطراف المتحاربة، بدعم من المجتمع الدولي.
وفي الختام يمكن القول أنّ انتقال "سيناريو سوريا" إلى اليمن خلال الفترة القادمة هو احتمال وارد، ولكن ليس حتميا. يعتمد ذلك على العديد من العوامل، منها التطورات على الساحة الدولية والإقليمية، ومواقف الدول الفاعلة في المنطقة، خصوصا المملكة العربية السعودية.
*- إبراهيم علي
باحث متخصص بشؤون الجماعات المسلحة اليمنية في مركز سوث24، أخفى هويته لأسباب