*- شبوة برس – د. محمد بن سعد الشويعر الجزيرة السعودية
المكتبة العربية تزخر بأنواع عديدة من الكتب، على مختلف المشارب، ونوعيات الأذواق، ولا تجد نوعاً من أنواع المعارض سواء كانت جادة وعلمية أو هزلية وترفيهية، إلا وللعرب فيها صولات وجولات، بما كتبوا وألّفوا، هذا فضلاً عما ضاع في كارثتين كبيرتين، من أسوأ ما مرت بتاريخ أي أمة من الأمم، وقد كان هدف الأعداء، في هاتين الكارثتين محو وطمس تاريخ العرب، وحضارة الإسلام، من الوجود، ولكن الله غالب على أمره فقد ذهب أولئك القوم، وبقي من تاريخ العرب المرصود، وحضارة الإسلام الزاخرة الشيء الكثير المفيد.
أولى تلك الكارثتين كانت في عام 656ه على يد هولاكو التتري، حيث قضى على الدولة العباسية بخيانة من الوزير ابن العلقمي الباطني، فأمر هولاكو بجميع الكتب التي توفرت له في بغداد، بأن ترمى في النهر، فكان ماء دجلة يجري شهراً كاملاً فتغير اللون من مداد تلك الكتب ويقول قادة التتار: لقد ذهب تاريخ العرب إلى الأبد.
والكارثة الثانية كانت في عام 898ه عندما فر أبو عبدالله: محمد بن علي بن الأحمر من غرناطة، بعد أن تعاون مع الافرنج للقضاء على اخوانه، وبني جلدته ودينه، وشعر بأن الأفرنج استغلوه لمآربهم فهرب ناجياً بنفسه، وكانت كارثة الأندلس وضياعها، وعندما دخل على أمه باكياً على ما فرط منه، قالت له: ابك كما تبكي الثكلى على ملك ضيعته، فعمد الملك الأفرنجي فرديناند وزوجته ايزابيلا على تجميع الكتب التي تمثل حضارة الإسلام وسائر العلوم العربية، فجعلت أكواماً كأنها الجبال، وعهد فرديناند لرجاله باحراقها، وزوجته ايزابيلا تتفرج مسرورة، ويقول لها: لقد ذهب التاريخ العربي وآثار العرب إلى غير رجعة، كان ذلك في أكبر ساحات غرناطة,.
ومع هذا والكوارث الأخرى، فقد بقي في تاريخ المسلمين الشيء الكثير، والكثير جداً، حتى قيل ان كبريات المكتبات بأوروبا في هولندا وألمانيا، وفرنسا وغيرها بل في الأندلس نفسها، يقال: إن مكتبة الأوسكريال بمدريد، بها أكثر من خمسة ملايين مخطوطة عربية,, هذا فضلاً عما يتوفر في المكتبات، بالبلاد العربية وبتركيا، وبقية الدول الإسلامية,.
هذا المدخل جعلني اختار للقارئ من الكتب الطريفة,, كتاباً يقترب موضوعه، من أولئك الذين خانوا أمتهم، ولم يراعوا ما يأمرهم به دين الإسلام في تعاليمه، فكانوا أسوأ من الحيوانات، بل من الحيوانات ما يتبرأ من أعمالهم، ذلك الكتاب هو: فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب,, الذي ألفه: الشيخ العلامة الإمام أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان المتوفى عام 309ه، كما أن له أكثر من خمسين كتاباً في التاريخ والترجمة عن الفارسية، والآدب وعلوم القرآن ومنها كتاب في نفس الموضوع سماه: من غدر وخان.
نشر إبراهيم يوسف الناسخ بدار الكتب المصرية كتاب: فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب عام 1341ه، بمطبعة محمود توفيق بمصر، ويقع في 32 صفحة,, كما حققه: زهير الشاويش صاحب المكتب الإسلامي في بيروت عام 1410ه، باسم: تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب، وجعلها الطبعة الأولى، وخرجت من القطع الصغير في 156 صفحة مع الفهرس، وسوف أجعلها النسخة الأصلية التي أخول عليها,.
لقد جعل زهير الإهداء: إلى الذين عرفنا فيهم الوفاء، ولا نزكي على الله أحداً,, صلة,, وإلى الذين نحسب في نفوسهم بقية من الخير,, تذكرة,, وللذين ارتضوا الحياة الدنيا وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة (البقرة 7)، وأخص الذي آتاه الله العلم، فانسلخ منه، المعلم ذاك الزمان، ومن سار على دربه، واقتفى آثاره من بلاعيم هذه الأيام تبكيتاً,, وإلى صاحب ابليس، ومن هو بالدس والاحتيال معروف، وإلى المذمم الكريه، وإلى من هو بالشؤم في الغرب والشرق موصوف,.
وإلى من زاد على الإبالة ضغثاً، وفاق كل من سبقه، وخالف كل مظنون، حتى كدنا نتوهم الموضوع صحيحاً، أبت النفوس اللئيمة ان تغادر الدنيا، حتى تسيء إلى من أحسن إليها وكان من فعله ان أخرجت هذا الكتاب من محبسه، الذي طال أكثر من عشر سنوات,, إلى هؤلاء وأمثالهم، ممن أظلت الزرقاء، وأقلّت البلقاء جزاء وفاقاً (ص 5 6).
أما المؤلف ابن المرزبان فقد قال في سبب تأليف كتابه هذا: وسألتني أعزّك الله تعالى، أن أجمع لك، ما جاء في فضل الكلب على شرار الإخوان، ومحمود خصاله في السر والإعلان، فقد جمعت ما فيه كفاية وبيان,, ولست أشك أنك أعزك الله عارف بخبر عبدالله بن هلال الكوفي الحميري المجذوم صاحب الخاتم، وخبره مع جاره، لما سأله ان يكتب كتاباً إلى ابليس لعنه الله في حاجة له.
فإن كان العقل يدفع ذلك الخبر، فهو مثل حسن، يعرف في الناس، فكتب إليه الكتاب، وأكده غاية التأكيد، ومضى وأوصل الكتاب إلى ابليس، فقرأه وقبله ووضعه على عينه، وقال: السمع والطاعة، لأبي محمد فما حاجتك؟
قال: لي جار مكرم لي، شديد الميل إليّ، تفوق علي وعلى أولادي، إن كانت لي حاجة قضاها، أو احتجت إلى قرض أقرضني واسعفني، وان غبت خلفني في أهلي وولدي، يبرهم بكل ما يجد إليه السبيل، من غير أن يناله منا عوض أو شكر,.
وابليس كلّما سمع منه يقول: هذا حسن، وهذا جميل، وهذا جيد، فلما فرغ من وصفه قال إبليس: فما تحب أن أفعل به؟
قال: أريد أن تزيل عنه نعمته، وتفقره فقد غاظني أمره، وكثرة ماله، وبقاؤه وطول سلامته.
فصرخ ابليس صرخة، لم يسمع مثلها منه قط، فاجتمع إليه عفاريته وجنده، وقالوا له: ما الخبر؟ يا سيدهم ومولاهم, فقال لهم: هل تعلمون ان الله عز وجل، خلق خلقاً هو شر مني؟ قالوا: لا, قال إبليس: فانظروا إلى صاحب هذا الكتاب القائم بين يدي، فهو شر مني.
ولو فتشت في دهرنا هذا لوجدت مثل صاحب الكتاب كثيراً، ممن نعاشرهم، إذا لقيك رحب بك، وإذا غبت عنه أسرف في الغيبة، وتلقاك بوجه المحبة، ويضمر لك الغش والمسبة,, وقد حلمت ما جاء في الغيبة، قال صلى الله عليه وسلم: إياكم والغيبة، فإنها شر من الزنا، إن الرجل ليزني ويتوب، فيتوب الله عليه، وصاحب الغيبة لا يغفرها الله، حتى يغفرها صاحبها (ص 45 48).
ثم بدأ المؤلف، يورد أقوالاً في مكانة الوفاء عند الكلاب، وبعض الوقائع المثبتة لوفاء الكلاب,, فقد روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً قتيلاً، فقال عليه الصلاة والسلام: ما شأن هذا الرجل قتيلاً؟ فقالوا: يا رسول الله، إنه وثب على غنم بني زهرة، فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية فقتله: فقال صلى الله عليه وسلم: قتل نفسه، وأضاع ديته، وعصى ربه عز وجل، وخان أخاه، وكان الكلب خيراً من هذا الغادر ثم قال صلى الله عليه وسلم: أيعجز أحدكم أن يحفظ أخاه المسلم في نفسه وأهله، كحفظ هذا الكلب ماشية أربابه ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعرابياً يسوق كلباً، فقال: ما هذا معك؟.
فقال: يا أمير المؤمنين، نعم الصاحب، ان اعطيته شكر، وان منعته صبر قال عمر: نعم الصاحب فاستمسك به, وروي ان بعض الحكماء طلب منه رجل أن يوصيه فقال: ازهد في الدنيا ولا تنازع فيها أهلها، وانصح لله تعالى كنصح الكلب لأهله، فإنهم يجيعونه ويضربونه، ويأبى إلا أن يحوطهم نعماً.
وقال الأحنف بن قيس: إذا بصبص الكلب لك فثق بود منه، ولا تثق ببصابص الناس، فرب مبصبص خوان.
وقال الشعبي: خير خصلة في الكلب انه لا ينافق في محبته، وقال ابن عباس: كلب أمين خير من انسان خؤون.
وأنشد بعضهم:
لكلب الإنس ان فكّرت فيه
أشدّ عليك من كلب الكلاب
لأن الكلب تخسؤه فيخسا
وكلب الناس يربض للعتاب
وبعض الأعراب يحب الكلب لخصاله: فهو يدل الضيف عليه، في الليل والعرب تحب الكرم وتمدح باقرار الضيف أو يحرس صاحبه وأغنامه إذا نام، ويدافع عن أولاده كل مصيبة، ويسمون أولادهم عليه: كليب، وكلاب، وأكلب، ومكلب ومكالب,, يقول الأصمعي: سمعت بعض الملوك، وهو يركض خلف كلب، وقد دنا من ظبي، وهو يقول من الفرح: إيه فدتك نفسي.
وذكر من وفاء الكلاب، أن الكلب يفدي صاحبه بنفسه، بينما الإنسان يغدر بصاحبه، وصديق عمره، فقد حدثه عبيد الله بن محمد الكلبي: قال: حدثني أبي عن محمد بن خلاد قال: قدم على بعض السلاطين رجل، وكان معه حاكم أرمينية منصرفاً إلى منزله، فمر في طريقه بمقبرة، فإذا قبر عليه قبة بنية مكتوب عليها: قبر كلب، فمن أحب أن يعلم خبره، فليمض إلى قرية كذا، فإن فيها من يخبره,, فسأل الرجل عن القرية؟ فدلوه عليها، فقصدها وسأل أهلها، فدلوه على شيخ فبعث إليه وأحضره، وإذا شيخ قد جاوز المائة سنة، فسأله فقال: نعم كان في هذه الناحية ملك عظيم الشأن، وكان مشهوراً بالنزهة والصيد والسفر، وكان له كلب قد رباه وسماه باسم، وكان لا يفارقه حيث كان، فإذا كان وقت غدائه وعشائه أطعمه مما يأكل، فخرج يوماً إلى بعض منتزهاته، وأمر بربط الكلب لئلا يذهب معه، وقال لبعض غلمانه: قل للطباخ يصلح لنا ثريدة لبن، فقد اشتهيتها فأصلحوها، ومضى إلى منتزهاته، فتوجه الطباخ وجاء بلبن وصنع له ثريدة عظيمة، ونسي أن يغطيها بشيء، واشتغل بطبخ شيء آخر، فخرجت من بعض الشقوق أفعى فكرعت في ذلك اللبن، ومجته في الثريدة من سمها، والكلب رابض مربوط يرى ذلك كله، ولو كان له في الأفعى حيلة لمنعها، ولكن لا حيلة للكلب من الأفعى والحية، وكان عند الملك جارية خرساء زَمنَاء لا تستطيع القيام أو الحركة وقد رأت، صنع الأفعى.
ورجع الملك من الصيد في آخر النهار، فقال: يا غلمان أول ما تقدمون إليّ الثريدة، ولما وضعت بين يديه، أومأت الخرساء إليهم، فلم يفهموا ما تقول، ونبح الكلب وصاح، فلم يلتفتوا إليه، وألح في الصياح، فلم يعلم مراده فيه، ثم رمي إليه بما كان يرمى إليه في كل يوم فلم يقربه، ولج في الصياح، فقال لغلمانه: نحوه عنا فإن له قصة، وفك رباطه، مد الملك يده إلى اللبن، فلما رآه الكلب يريد أن يأكل، وثب إلى وسط المائدة، فأدخل رأسه في اللبن، وكرع منه، فسقط ميتاً وتناثر لحمه، وبقي الملك متعجباً منه ومن فعله، فأومأت الخرساء إليهم، فعرفوا مرادها، بما صنع الكلب، فقال الملك لغلمانه وحاشيته: إن من فداني بنفسه لحقيق بالمكافأة، وما يحمله ويدفنه غيري، ودفنه بين أبيه وأمه، وبنى عليه قبة وكتب ما قرأت، وهذا ما كان من خبره.
ومن وفاء الكلب روي عن أبي الدنيا باسناد ذكره النحوي في حديث مشهور: ان الطاعون الجارف أتى على أهل دار فلم يشك أحد من أهل المحلة، انه لم يبق فيها صغير ولا كبير، وكان قد بقي في الدار صبي رضيع صغير، يحبو ولا يقوم، فعمد من بقي من أهل تلك المحلة، إلى باب الدار فسدوه، فلما كان بعد ذلك بأشهر تحول إليها بعض ورثة القوم، فلما فتح الباب، وأفضى إلى عرصة الدار أو وسطها إذا هو بصبي يلعب مع جرو كلبة كانت لاصحاب الدار، فلما رآها الصبي حبا إليها فامكنته من لبنها، فعلموا ان الصبي بقي في الدار، وصار منسياً، واشتد جوعه، ورأى جرو الكلبة يرضع، فعطف عليها وعطفت عليه، فلما سقته مرة، أدامت له وأدام لها الطلب تلك المدة، سبحان مسبب الأسباب.
والكلب يحافظ على حرمات صاحبه، ويرعى كل أمر يهمه، فقد كان للحسن بن مالك القنوي اخوان وندمان، فأفسد بعضهم حرمته في أهله، وكان للحسن على باب داره كلب قد رباه، فجاء الرجل يوماً في غياب الحسن إلى منزله، فدخل إلى امرأته، فقالت له: قد بعد فهل لك في جلسة يسر بعضنا ببعض فيها؟ فقال: نعم فأكلا وشربا، ووقع منهما الشر، ورأى الكلب ذلك، فوثب عليهما فقتلهما,, فلما جاء الحسن ورآهما على تلك الحال، تبين ما فعلا، فأنشأ يقول:
أضحى خليلي بعد صَفو مودّتي
صريعاً بداء الذّلّ أسلمه الغدر
وَطَا حُرمتي بعد الإخاء وخانني
فغادره كلبي وقد ضمّه القبر
وكثيراً ما يكون الكلب سبباً في نجاة صاحبه من مصيبة كبيرة، قد تكون مهلكة بينما الانسان يغدر بصاحبه ويخونه، يقول المؤلف: وسمعت من رجل من أهل البصرة كانت له صحبة مع أهلي انه خرج الى بساتين أعلى البصرة، ومعه كلب، ولما كان بجوار أحد أنهار البصرة، كده الحر، فدخل احدى قباب القصب، الذي يخرجه الفلاحون من أجل تجفيفه ويصنعون منه ما يشبه القباب، ويسكنون فيها، قال: فنمت بالقبة، وكانت حارة جداً، وتنبهت بعد العصر، وقد انصرف الذين يجمعون القصب، فاستوحشت للوحدة، وعملت على القيام، فاذا بأفعى في غلظ الساق أو الساعد، متدورة على باب القبة كالطبق العظيم.
فلم أجد للخروج سبيلاً، ويئست من نفسي، وجزعت جزعاً شديداً، وأخذت في التشهد والتضرع الى الله سبحانه, وبينما أنا كذلك، اذا بالكلب أقبل من بعيد فلما رأى الأفعى، وقف برهة بعيداً عنها، ثم رجع من حيث أتى وأنا لا استطيع رفع صوتي منادياً له وما ان غاب قليلاً حتى رجع ثانية، ومعه كلب آخر أكبر منه، فوقف الواحد من يمين باب القبة والآخر على يسارها، وصار الواحد عند رأس الأفعى، والآخر عند ذنبها، ثم وثبا في حال واحدة، واذا رأس الأفعى، وذنبها في فم كل واحد منهما، ولم تستطع الافلات منهما، وجراها بعيداً عن مكاني، فخرجت مسروراً، وبعد ذلك لحق بي الكلب الذي نجاني الله بحيلته.
وقد زاد الناشر الأول في صفحات في خصال الكلب المحمودة، ووفاء الكلب، وفي مديح الكلب، ونظرة الفقهاء له، ومن خصال الكلب نسب للحسن البصري انه قال في كلب عشر خصال حميدة وكذلك ينبغي أن تكون في كل مؤمن: الأولى لا يزال خائفاً وذلك لعارض دأب الصالحين، الثانية: ليس له مكان يعرف وذلك من علامات المتوكلين، الثالثة: انه لا ينام من الليل الا قليلاً، وذلك من صفات المحسنين، الرابعة: اذا مات لا ميراث له وذلك من أخلاق الزاهدين، الخامسة: لا يترك صاحبه ولو جفاه وضربه وذلك من صفات المريدين، السادسة: يرضى من الدنيا باليسير، وذلك من علامات المتواضعين، السابعة: اذا طرد من مكان وانصرفوا عنه عاد اليه، وذلك من علامات الراضين، الثامنة: اذا ضرب وطرد، ثم دعي عاد بلاحق وذلك من صفات الخاضعين، التاسعة: اذا حضر شيء للأكل جلس من بعيد وذلك صنع المساكين، العاشرة: اذا رحل من مكان لا يرحل ومعه شيء يلتفت اليه، وذلك من صفات المتجردين,, ونكتفي بالنماذج التي اوردنا دون المقارنة مع خصال الانسان، لأن ذلك مما يدركه القارىء.
نماذج من الخيانة:
جاء في كتاب المنتخب من أدب العرب لطه حسين وزملائه: ان سبب قتل المعتصم بالله آخر خلفاء بني العباس: انه لما ولي الخلافة لم يتوثق أمره، لأنه كان قليل المعرفة بتدبير الملك، نازل الهمة، مهملاً للأمور المهمة، محباً لجمع المال، فأهمل أمر هولاكو وانقاد الى وزيره ابن العلقمي، حتى كان في ذلك هلاكه، وهلاك الرعية، فان وزيره ابن العلقمي الرافضي، كان كتب كتاباً الى هولاكو ملك التتار في الدشت: انك تحضر الى بغداد، وأنا اسلمها لك، وقد داخل قلب اللعين الكفر، فكتب هولاكو: ان عساكر بغداد كثيرة، فان كنت صادقاً فيما قلته، وداخلا في طاعتنا، ففرق عساكر بغداد، ونحن نحضر.
فلماوصل كتابه الى الوزير، دخل على المعتصم بالله، وقال: ان جندك كثيرة، وعليك كلفة كبيرة، والعدو قد رجع من بلاد العجم، والصواب انك تعطي دستور الخمسة عشر ألفاً من عسكرك، وتوفر معلومهم، فأجابه المعتصم لذلك، فخرج الوزير لوقته، ومحا اسم من ذكر من الديوان، ثم نفاهم من بغداد، ومنعهم من الاقامة بها، ثم بعد شهر فعل مثل فعلته الأولى، ومحا اسم عشرين ألفا من الديوان، ثم كتب الى هولاكو بما فعل، وكان قصد الوزير بمجيء التتار، أشياء منها انه كان رافضياً خبيثاً، وأراد أن ينقل الخلافة من بني العباس الى العلويين، فلم يتم له ذلك، من عظم شوكة بني العباس وعساكرهم، فأفكر ان هولاكو اذا قدم يقتل المعتصم بالله واتباعه، ثم يعود الى حال سبيله، وقد زالت شوكة بني العباس، وقد بقي هو على ما كان عليه من العظمة والعساكر وتدبير المملكة، فيقوم عند ذلك بدعوة العلويين الرافضة، من غير ممانع لضعف العساكر ولقوته، ثم يضع السيف في أهل السنة، فهذا كان مقصده قبحه الله.
ولما بلغ هولاكو ما فعل الوزير ببغداد ركب وقصدها، الى أن نزل عليها، وصار المعتصم بالله، يستدعي العساكر، وتجهز لحرب هولاكو، وقد اجتمع أهل بغداد، وتحالفوا على قتال هولاكو، وخرجوا الى ظاهر بغداد، ومشى اليهم هولاكو بعساكره، فقاتلوا قتالاً شديداً، وصبر كل من الطائفتين صبراً عظيماً، وكثرت الجراحات والقتلى في الفريقين، الى أن نصر الله تعالى عساكر بغداد، وأنكسر هولاكو أقبح كسرة، وساق المسلمون خلفهم، وأسروا منهم جماعة، وعادوا بالأسرى، ورؤوس القتلى الى ظاهر بغداد، ونزلوا بخيمهم مطمئنين بهروب العدو، فارسل الوزير ابن العلقمي في تلك الليلة جماعة من أصحابه فقطعوا شطر دجلة، فخرج ماؤها على عساكر بغداد وهم نائمون، فغرقت مواشيهم وخيامهم وأموالهم، وصار السعيد منهم من لقي فرسا يركبها، وكان الوزير ابن العلقمي قد أرسل الى هولاكو يعرفه بما فعل، ويأمره بالرجوع الى بغداد، فرجعت عساكر هولاكو الى ظاهر بغداد، فلم يجد هناك من يردهم، فلما اصبحوا استولوا على بغداد، وبذلوا فيها السيف، ووقع منهم أمور يطول شرحها, وقد أمر هولاكو بوضع الخليفة وولده في عدلين، وأمر التتار برفسهما الى ان ماتا، ثم نهبت دار الخلافة ثم أحرقت بغداد بعد أن قتل أكثر أهلها، حتى قيل ان عدة من قتل في نوبة هولاكو يزيد على ألف ألف وثلاثين ألف انسان، وبقيت الدنيا بلا خلافة الى أن أقام الملك الظاهر بيبرس ببعض بني العباس في الخلافة، أما ابن العلقمي فأمسكه هولاكو ووبخه بألفاظ شنيعة، ثم قتله شر قتلة، قائلاً لا خير فيمن خان مخدومه, ص 239 242 نقلاً عن كتاب الخميس للديار بكري .