لم يكن قرار لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن بإلغاء العقوبات المتخذة بحق الرئيس السابق ونجله سوى مُنتَجٍ طبيعيٍ ومتوقعٍ في ظل التخبُّط الذي تعيشه اللجنة الرباعية التي تنقلت بين حملة نصرة شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي على طريق تطهير اليمن من الجماعة الحوثية المنفذة للمشروع الإيراني في اليمن، ثم التهدئة والبحث عن تسوية، بالتوازي مع إزاحة الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي المنتخب ديمقراطياً (ولو شكليا) واستبداله بمجلس ثماني يمثل الأطراف المسلحة في البلاد كما صورها الكثير من الإعلاميين آنذاك، وأخيرا تصالُح اللجنة الرباعية مع الجماعة الحوثية عن طريق سياسة (الخطوة خطوة) التي اتبعت ذات زمن عند بداية التطبيع العربي مع إسرائيل نهاية سبعينات القرن الماضي، وأخيراً مبادرة خارطة الطريق التي بلا شك لم تكن سوى خطوة في هذه السلسلة (التراجعية) باتجاه الإقرار بأن الجماعة الحوثية هي سلطة الأمر الواقع، في محافظات الجمهورية العربية اليمنية (السابقة) والبحث عن شركاء موثوقين لدى المجتمع الدولي (ولجنته الرباعية) لتسوية الأزمة اليمنية بغض النظر عن مشروعية وقانونية ما ستتضمنه هذه الخارطة من عدمها.
وتجدر الإشارة إلى أن الخطوات التدريجية التي اتبعتها دول التحالف العربي، ومعها اللجنة الرباعية لم تأتِ إلّا بعد الخيبات الكبيرة التي أثمرها الاعتماد على شرعيي ما قبل أبريل ٢٠٢٢م، الذين حولوا الدعم المادي والسياسي والدبلوماسي واللوجستي والمالي (على وجه الخصوص) لشرعيتهم إلى مشروع استثماري نشأت عنه طبقة عريضة من أثرياء الحروب مقابل تراجعات مخزية لما يسمى بـ(الجيش الوطني)، ومعه القوى السياسية (المؤيدة للشرعية) التي يعبر عنها هذا الجيش.
يعود انفتاح الرباعية والتحالف العربي على آل عفاش إلى نهاية العام ٢٠١٨، حينما بدأت ملامح الصراع بين طرفي التحالف الانقلابي تتجه نحو العلن، وأشيع حينها بأن دول التحالف العربي قد شجعت الرئيس السابق علي عبد الله صالح على فك التحالف مع الجماعة الحوثية والانتقال إلى المواجهة العلنية معها، وكانت الجماعة الحوثية ومن ورائها المخابرات الإيرانية تتابع تلك التطورات، فاستبقت أي خطوة للانقضاض عليها بتصفية الرئيس السابق و كان ما تلى ذلك من تداعيات يعلمها الجميع، وما تمثيل التيار العفاشي في الحكومة ومجلس القيادة الرئاسي سوى محطة من تلك السلسلة الطويلة الهادفة إلى نقل هذا التيار إلى مركز الصدارة في السلطة الشرعية بعد أن أثبت التحالف السابق للشرعية فشله المخزي طوال السنوات الثمان السابقة والتي انتهت بسقوط آخر أربع محافظات بيد الجماعة الحوثية بعد أن كانت تحت سيطرة ما كان يسمى بـ(الجيش الوطني) التابعة لتلك الشرعية.
من الواضح أن مخرجات مشاورات الرياض، أبريل ٢٠٢٢م في طريقها إلى التعديل الجذري وربما الحذف الكلي، بعد أن برهنت المعطيات أن تلك المخرجات (والشرعية) المكلفة بتنفيذها، لم تثمر سوى صفر من النجاحات وعشرات الخيبات، ما يجعلها أكثر سوءاً مما قبلها، وما نقصده بالتعديل او الحذف لهذه المخرجات هو ما تتضمنه خارطة الطريق التي تتحدث عن ثلاث مراحل للتسوية السياسية تسير جميعها باتجاه تسليم النصيب الأكبر من الكعكة السياسية للجماعة الحوثية، مع إدماج التيار العفاشي كفاعل أساسي في هذه التسوية، واسترضاء بقية أطراف الشرعية ببعض الفتات من هذه الكعكة البائتة .
في هذا السياق يمكن التعرض للجزئيات والقضايا المهمة التالية:
1. إن الجماعة الحوثية تزداد يوماً عن يوم زهواً وتبختُراً بفعل ما حصدته من نجاحات، ميدانية وسياسية يعود الفضل فيها ليس إلى تفوق هذه الجماعة العسكري أو السياسي أو الاخلاقي والمجتمعي، ولكن إلى خيبات الطرف الذي ظل يدعي أنه يحاربها، بينما كان مجرد مستثمر ماهرٍ في مسرحية الحرب عليها.
2. إن الرهان على إمكانية استئناس هذه الجماعة أو إدماجها في المحيط الإقليمي والعربي والدولي، وحتى المحلي، ومن ثم التعايش معها ككيان سياسي يدير دولة شقيقة مع الاشقاء وصديقة للاصدقاء، ووفائها بالعهود والمواثيق التي توقع عليها، إنما يمثل رهاناً حاطئاً وخاسراً تماماِ كالرهان على تحالف شرعية السنوات التسع الذي انتهى بتسليم كامل محافظات الجمهورية العربية اليمنية (السابقة) للجماعة الحوثية، وتعويض هذا التحالف بأراضي الجنوب، بعد أن خسر كامل الشمال، فهذه الجماعة مهما رفعت من شعارات، ومهما تظاهر بالاستعداد لتقديم بعض التنازلات، إنما تظل متشبثة بمشروعها المذهبي، السلالي، العائلي، القائم على نظرية ولاية الفقيه، وتصدير الثورة (بنموذجها الخميني) إلى جميع دول المنطقة.
3 .إن قدرة آل عفاش على الاندماج في العملية السياسية والمساهمة في محاولة استنبات نواة لدولة يمنية حقيقة قابلة للحياة يتوقف على مدى استيعابهم للدروس التي يمكن استخلاصها من تجربة زعيمهم، الذي هيمن على اليمن ثلث قرن ويزيد، حتى أوصلها إلى أسفل سُلٍَم الدول الفاشلة في العالم، وأهم هذه الدروس.
أ. اقتناعهم بأن نهج الرئيس السابق، قد فشل وأن أي محاولة لتكرار نفس النهج إنما يمثل اتكاءِ على مشروع فاشل وتكرار تجربة أثبتت الأيام عقمها وعدم قابلتها للحياة.
ب. أهمية الاعتذار للشعب اليمني عما تسببه هذا النهج من آلام ودمار وتخريب، وتعطيل مسيرة التاريخ لثلث قرن من الزمان كان يمكن لليمن أن تكون فيه في صدارة الدول المستقرة والمزدهرة لولا الفساد والاستبداد والانانية السياسية التي أدت إلى ما أدت إليه من خرائب وحرائق قد تستدعي سنين لإعادة ترميم ما سببته خراب والتغلب على من تركته من آثار.
ج. الكف عن التغني بالمنجزات وادعاء التميز لزمن حكم عائلتهم ومحاولة تَصنُّع المظلومية ومن ثم استعادتهم الحكم كمكافأة لهم على هذا التميز وتلك المظلومية والذي يمثل استنساخاً سيئا، لادعاءات الحركة الحوثية بالتميز والأصطفاء والأحقية الإلاهية في الحكم، وإن أختلف الشكل والمظهر.
د. أهمية الاعتراف بجريمة حرب ١٩٩٤م بحق الجنوب. الجنوبيين والاعتذار للشعب الجنوبي على هذه الجريمة وما انتجته من مآسي وكوارث بحق الشعب الجنوبي وتاريخه وهويته ومستقبل أجياله وهي المآسي والكوارث التي لا تمحوها السنين والعقود.
هـ. ومن هذا المنطلق، الإقرار بحق الشعب الجنوبي في تحديد خياراته السياسية المستقبلية بما في ذلك حقه في استعادة دولته المستقلة كاملة السيادة على أرضه التاريخية بحدود ٢١ مايو ١٩٩٠م.
وأخيرا:
إن نجاح أية تسوية سياسية للأزمة اليمنية يتوقف على قضيتين أساسيتين لا يمكن تجاهلهما أو القفز عليهما وهما:
1. إن تكون هذه التسوية مخرجاً لإجماعٍ سياسيٍ من قبل جميع الشركاء السياسيين في الجنوب والشمال، وخالية من أية أملاءات لطرف على بقية الأطراف.
2. الاعتراف بالقضية الجنوبية كقضية مصيرية لا تقبل التجاهل والتهميش أو الحلول الترقيعية التي لا تستجيب لتطلعات الشعب الجنوبي بمختلف مكوناته السياسية والفكرية والجهوية والفئوية والتاريخية.
وبالله التوفيق.