يمر شعبنا الجنوبي وقضيته العادلة بمرحلة مفصلية دقيقة وحاسمة، في ظل تراكمات كمية توشك أن تصبح تحولات نوعية في مسار قضيتنا الجنوبية، ولعل أهم مظاهر الخطورة والحساسية والدقة تكمن في تنامي حالة الركود، واستمرار التدهور المتواصل منذ إبريل العام ٢٠١٦م بعد عزل نائب الرئيس رئيس الوزراء خالد بحاح، والمجيء بأحمد بن دغر وعلي محسن ليحلا محل الرجل، وتبدأ عجلة التراجع في الاتساع والذهاب باتجاه انسداد عنق الزجاجة الجنوبية.
* * *
في العام ٢٠١١/٢٠١٢م ارتكبت النخبة السياسية اليمنية خطأً سياسياً جسيماً حينما جرى الاتفاق على اختيار عبد ربه منصور هادي بديلاً لعلي عبد الله صالح، ووجه الخطأ لا يكمن في الفوارق الكبيرة بين ثقافتي وخبرتي وخلفيتي الرجلين، فقد يكون عبد ربه منصور أكثر من علي صالح تعليماً وتأهيلاً ونزاهةً ودوراً تاريخياً في مواجهة الاستعمار حينما كان أحد أفراد خلايا الجبهة القومية في جيش الجنوب العربي، لكن الخطيئة تكمن في أن السياسيين انتخبوا رئيساً للشمال من خارج الشمال، حينما كان الجنوب قد أعلن ثورته ورفع شعار استعادة دولته وصار التحكم فيه من صنعاء مستحيلاً.
* * *
وبعد أن تبلورت اللوحة السياسية تبين أن اختيار رئيسٍ جنوبيٍ لشعب غير شعبه وأرض غير أرضه، قد أوصل الأمر في البلد إلى ما وصلت إليه أواخر ٢٠١٤م حينما انقلب التحالف الحوثي-العفاشي، على الرئيس المنتخب، وتخلت النخب الشمالية عن هذا الرئيس، ولم يجد الرئيس ذو الاصل الجنوبي من يقف في صفه سوى الجنوبيين الذين خاضوا حرب الدفاع عنه حتى دحر من انقلبوا عليه.
* * *
في العام ٢٠٢٢م كرر النافذون اليمنيون نفس خطيئة ٢٠١٢م باختيار رئيس شمالي لرئاسة وإدارة الجنوب، فكانت الخطيئة هذه المرة لخدمة الدكتور رشاد العليمي، صاحب أشهر سجل في ملاحقة وإيذاء الناشطين السياسيين الجنوبيين والتنكيل بهم وقتل الكثير واعتقال الكثير فضلاً عن صدور الأحكام الجائرة بحق الكثيرين منهم بعد الاعتقالات التعسفية على يد أجهزة فخامته والمحاكمات الصورية عبر القضاء المسيس.
نقول جاءت الخطيئة بانتخابه لإدارة الجنوب، لأن الجنوب هو المساحة الوحيدة المحررة أما الشمال فأن ٩٥% من مساحته وجماهيره تحت هيمنة الجماعة الحوثية، وحتى المديريات القليلة التي لا يسيطر عليها الحوثيون في مأرب وتعز والحديدة فإنها موزعة بين قوات مليشياوية تتبع من هم أعضاء في مجلس رئاسة رشاد العليمي.
* * *
لم ينجح عبد ربه منصور هادي في تقديم شيء في الشمال، وحتى مشروع الحوار الوطني، الذي هو علامة امتياز للرئيس هادي، تآمر عليه من صنعوه وشاركوا في كتابة مخرجاته وجاء انقلاب الحوثي- صالح، ليمثل شهادة وفاة زمن الرئيس هادي ومشروعه للحوار الوطني، حيث إن لا البيئة هي بيئة الرئيس هادي، ولا الحاضنة الاجتماعية حاضنته ولا الجمهور جمهوره، ولا حتى الثقافة والأعراف والتقاليد هي من ثقافة وأعراف البيئة التي أتى منها الرئيس هادي وخلفيته التربوية والتاريخية.
ويُكَرِّر المشهد مع رشاد العليمي، مع الفوارق بين تاريخ وأخلاقيات الرئيسين وملفهيما السياسي والجنائي.
* * *
صحيح أن رشاد العليمي لم يستلم دولةً معافاة، (على افتراض أن هناك دولة استلمها ونوابه من سلفه ونائبه) لكن الفرضية كانت أن مهمة العليمي ومجلسه مثل ما كانت مهمة رئيس وزرا ئه معين عبد الملك وحكومته هي توفير الخدمات للمناطق المحررة وتسليم موظفي الدولة مستحقاتهم الموقوفة والمتعثرة، وتشغيل المؤسسات الخدمية والإيرادية وتسخير العائدات والموارد والمعونات لصالح تطبيع الحياة في العاصمة عدن وبقية المحافظات الجنوبية (التي يزعمون أنها محررة) لكن رشاد العليمي ومجلسه وحكومته لم يوفروا ولن يوفروا شيئاً من هذا ولو بعد مائة عام وأسباب جزمنا هذا يعود إلى أسباب عديدة أهمها ما يلي:
١. رشاد العليمي واغلب زملائه لا يعرفون شيئاً عن الجنوب، فلا حاضنة اجتماعية لهم ولا خلفية تاريخية لديهم، ولا علاقة إنسانية بينهم وبين الشعب الجنوبي، ولا دراية عميقة بالنفسية الاجتماعية الجنوبية وكل ما يعرفه رشاد العليمي وطارق صالح وبقية زملائهم في المجلس والحكومة أن الجنوب مجموعة من الانفصاليين والمتمردين والمشاغبين.
٢. ومن هذا المنطلق فأن تاريخ علاقة رشاد العليمي وزملائه الشماليين بالجنوب والجنوبيين يحفل بالعدائية والنظرة إليهم كعدو يستحق أن يعاقب عقاباً جماعياً، وهكذا كانت سياسات حكومة معين عبد الملك التي يواصلها الرئيس العليمي وحكومته.
٣. ولن ينسى الجنوبيون عشرات المجازر التي ارتكتبها قوات رشاد العليمي وأحمد علي وطارق صالح وعلي محسن وشركائهم ضد نشطاء الحراك الجنوبي، حينما كان فخامته وزيراً للداخلية ثم رئيسا للجنة الأمنية.
٤. حرب الخدمات وسياسات التجويع ليست جديدة، ولم يبدأها بن دغر ومعين عبد الملك، فهؤلاء لم يفعلوا سوى تكريس ما دشنه أساطين ٧/٧ في العام ١٩٩٤م من سياسات، وتم تكريسها وتوسيع دوائرها بعد العام ٢٠١٧م من قبل حكومتي بن دغر ومعين عبد الملك التي رغم ما سمي بالمناصفة
بعد اتفاق الرياض، لم تكن سوى مناصفة المناصب، ولم يظهر في الممارسات السياسية ما يدل على أن وجود وزراء جنوبيين محسوبين على الثورة الجنوبية قد أحدث أي تغييرٍ سوى المزيد من تدهور الأوضاع والذهاب نحو الكارثة.
* * *
ما ينبغي أن يلتفت إليه القادة السياسيون الجنوبيون هو ذلك الأثر المُدَمِّر لهذه السياسات القاتلة التي يساهم ممثلو الجنوب في تنفيذها، بوعي وغالبا بغير وعي، إذ تتسع دائرة السخط وتتفشى حالة اليأس والإحباط لدى السواد الأعظم من أبناء الجنوب، من إمكانية حصول انفراج في حياتهم المعيشية ، فالجياع والمحرومون والعاطلون عن العمل، والمنفلتون من كل عقال، عندما يتصاعد غضبهم وتتظافر مواقفهم، لن يغضبوا على نصف الحكومة ونصف مجلس الرئاسة ويستبقون حبهم وهيامهم بالنصف الثاني، فالثورة(ولو في صيغة السخط والصخب) تتجه نحو من يقود البلاد بهذه السياسات الخرقاء ولن يسأل الغاضبون عن أصل المسؤول ولا منشأه الجغرافي ولا قبيلته ولا حتى ادواره الوطنية، وهذا بالضبط ما يريده النصف الفاسد من الحكومة والذي رضع الفساد من ثدي سلطات ٧ / ٧ / ١٩٩٤م.
ربما لا يرى الكثيرون هذه اللوحة القاتمة ويصدقون ما يقوله الإعلام عن النجاحات والانتصارات وحالة الرفاهية (الزائفة) التي يعيشها الفاسدون من شريكي السلطة، ويعتقدون ان الشعب يعيش ما يعيشون من ترف وبذخ، أما الجوعى والمرضى والمحرومون فلن تقنعهم آلاف الخطب ولا مجلدات قصائد المدح ولا مئات المنشورات والبيانات، مثلما تقنعهم الكهرباء المستمرة دون انقطاع وحنفية مياه الشرب النقية والحصول على رغيف الخبز ومقابلة الطبيب وشريط الدواء المجاني، والحصول على لقمة العيش النظيفة فهي الدعاية الوحيدة التي تدخل في وجدان المواطن وعقله وقلبه، وتتسلل إلى دورته الدموية وكل أنسجة جسمه، هو وجميع أفراد أسرته وجيرانه وكل المواطنين.
آملين من القيادة الجنوبية أن تقرأ المشهد من كتابات النقاد المخلصين والشرفاء وليس من قصائد المدح وبيانات الإشادة ومقالات الإطراء والثناء.
هل أصبناء أم أخطأنا عندما قلنا إنها تحديات كبرى في لحظات مصيرية؟؟!!