لم تكن صنعاء ملَكية مثل ملَكيات الدنيا. كانت "إمامة". غزوات وجبايات وفقر وعزلة عن العالم. ربما ترك العثمانيون عيونهم الملونة وسيوفهم ومسمياتهم.. لكن البلد الذي تُقطع فيه الرؤوس عاش مغلقاً حتى زمن آخر.
تغيرت الهاشمية إلى يمنية واُطلقت معها شرارة "تبعيات صنعاء".. فكل شيء في الجغرافيا سيصبح "تابع لها"، حتى لو كانت الأوراس قريبة لأصبحت فرعاً تابعاً لجبل غيمان.
تابع لمتبوع توّجَه الله ملكاً مقدساً لمملكة لا تعرف العالم ولا العالم يعرفها. مع ذلك أضاعت جبال السروات، درر الجزيرة، وذهب حكامها يحلمون جنوباً.
الجمهورية هي الأخرى لم يكن فيها "الحكم بالتساوي"، كما غنّى لها المغنّون، ولم تصبح صنعاء دولة. فمن أراد أن يبنيها على أسس حديثة سوف يموت مقتولاً أو يؤخذ من مكانته ومكانه ويذهب إلى النسيان. وحين طالت فترة "حكم الرئيس" لعقود كانت تربّي في أحشائها "غيلان" الفتنة والحروب والضياع.
القبيلة أيضاً ليست كما عرّفها أخوة العرب. أصبح الشيخ فيها متعدد الصفات، قبيلياً يمتلك قبيلة وحزبياً يمتلك حزباً وحاكما يمتلك سلطاناً ومعارضاً يمتلك ائتلافاً وثائراً يمتلك ربيعاً وراسمالياً يمتلك بلداً. وعليك أن تقلبه كيف تشاء لتجد له يداً ولساناً في كل مكان. وإن بحثت عن كل (براندات) السياسة والتجارة والايديولوجيات والعصبيات التي اخترعها البشر تجدها جميعا في "صُرّة" يحملها مرافقوه من ذوي الشعر المنكوش و الوجوه الغاضبة المخيفة، ببنادقهم على الأكتاف و سياراتهم ذات السرع المدوية.
عدن شيء آخر تماماً. لكن دولة الاستقلال نزلت من فضاءات الزمن الفائت إلى جغرافيا سياسية متحفزة نحو مشاريع أعلى من سقفها و أبعد من حدودها و أكبر من طاقتها. ولكي يترسخ هذا الوضع كان يتعين شطب التاريخ السياسي للجنوب و اعتبار السلطنات والإمارات والمشيخات، التي عاشت عدة قرون، مجرد كيانات "مرتبطة بالحالة الكولونيالية". وكأن حكامها ذهبوا إلى الجزر الأطلسية البعيدة لإحضار الاستعمار على ظهر سفينة!
وهكذا وضعت الخطاب في فم الآخرين: وراج الادعاء بأن الجنوب تاريخياً وجغرافياً وديموغرافياً مجرد شطر تابع لليمن السياسي قبل أن تنتزعه بريطانيا، ثم عاد بفعل الأدمغة القومية إلى "الأصل".
عانت الدولة الجنوبية من أعراض التسارع نحو بوابة الخروج من الجغرافيا بصورة مبكرة إلى تاريخ مفتوح يتذكره الناس اليوم بأنه "الزمن الجميل" رغم كل شيء. مثلما يتذكرون ما قبله بأنه "الزمن الأجمل" رغم كل شيء ايضاً. هي ذاكرة شعب مصاب بداء الحنين.
كان ذلك النموذج المثالي للفكرة التي يصنعها الإنسان ثم يؤمن بها ثم يُقتَل من أجلها. وكانت عبرة.. وكانت مأساة، ضل بها الجنوب عن مداه الواسع بعد أن سبقت عدن كل مَن حولها في الجزيرة.
تقطّع وترُ أخيْل وكبا الحصان.. وفي ليلة ليلاء ذهب الجنوب وحكامه مع الريح. ولكي تصبح الوحدة راسخة قتلت صنعاء عدن واخذت حصتها في الحياة، ثم ذهبت هي الأخرى وحيدة نحو مستقبل انكسر فيه الجميع.
يقال بين حين وآخر (وهنا بيت القصيد) بأن الوحدة هدف جميل لولا القادة والنخب الحاكمة، ولهذا يتعين الحفاظ عليها…
تلك لغة عائمة تستدرج عقول البسطاء. لأن الإنسان (القادة والنخب) لم يتغير أو ربما فعل ولكن إلى الأسوأ. اليمن الموحد جميل وكذلك ستكون الأقاليم الستة أو العشرة أو العشرين لو تغير الإنسان.. وأمة العرب بكل حقولها وفصولها ستكون واحدة وقوية لو تغير الإنسان. ليس هذا وحسب بل ان العالم سيكون مفتوحاً بلا حدود أو حواجز، تسوده العدالة وتغمره السعادة والأمن لو تغير الإنسان.
لمن يكرر ذلك على مسمعك عزيزي القارئ عليك أن تسأله بأن يأتي بذلك الإنسان المستقيم ليصلح ما أفسده الزمن. حينها يمكن الحديث عن مسارات جديدة. إنما في الوقت الحالي اخبره بأننا لا نحلم وإنما نعيش الحلم المذبوح من الوريد إلى الوريد. وإعادته للحياة يتطلب امراً واحداً وهو أن يعود الزمان إلى الوراء ويستعيد الناس تلك الروح المتحفزة والعقول البريئة. قل للزمان…
احمد عبداللاه