طوال الأسبوع الماضي تركزت معظم الأنظار والألباب والأفئدة على العاصمة السعودية الرياض لتتبع المفاوضات التي جرت بين مسؤولين في السلطة السعودية ووفد الجماعة الحوثية الذي وصل إلى هناك بعد سلسلة خطوات تمهيدية بدأت في العاصمة العمانية مسقط ثم زيارة السفير السعودي السيد محمد سعيد آل جابر إلى صنعاء في رمضان الفائت وما سبق وتخلل وتلى تلك الخطوات من لقاءات معلنة أو غير معلنة.
وعلق الكثيرون آمالاً كبيرة على إمكانية ترويض الجماعة الحوثية وفرملة اندفاعاتها المتهورة وغرورها الذي لم يكن ممكناً أن تتمتع به لولا التخادم بينها وبين أشقائها في الشرعية اليمنية، هذا التخادم الذي تجلَّى في أوضح صوره حينما استملت الجماعة الحوثية من قبل شقيقتها الشرعية اليمنية و"جيشها الوطني" مجاناً أربع محافظات تقترب من نصف مساحة الجمهورية العربية اليمنية خلال أقل من شهرين، دونما أية مقاومة تذكر سوى مقاومة بعض رجال القبائل في مناطق متفرقة بين مأرب والبيضاء وأطراف الجوف، منيت بالهزيمة لأن الشرعية تخلت عن المقاومين وعن حاضنتهم الاجتماعية وانشغلت بحرب مصطنعة مع الجنوب والجنوبيين لتحريرهم من أنفسهم.
وبالعودة إلى مفاوضات الرياض بين الأشقاء في السعودية وبين الجماعة الحوثية فقد ذهب الخيال بالبعض إلى نشر نصوص اتفاقات وقرارات مشتركة بين الطرفين لا يخلو الكثير منها من الخيال والمبالغة ربما بدوافع التفاؤل أو بدوافع القلق من الخيبات التي ستنجم عما يتصور البعض أنه قد يتم من الاتفاقات.
وبلا شك أن وصول ممثلي الجماعة الحوثية إلى عاصمة المملكة يعد نجاحاً كبيراً للجماعة في فك الحصار عن نفسها ورفع العزلة التي ظلت تعاني منها على مدى قرابة التسع سنوات، حيث ظلت محصورة بين صنعاء ومسقط وطهران، لكن غرور وصلف الجماعة لن يمنعها من مواصلة ادعائها الانتصار على (العدوان).
سيكون من السابق لأوانه الحديث عن مخرجات نهائية للاتصالات السعودية-الحوثية فالمشوار ما يزال في بدايته، وستحتاج المملكة الشقيقة إلى سنوات وربما عقود لاختبار مدى جدية الجماعة الحوثية وأهليتها للتعامل مع الغير تعامل الدول وليس تعامل الجماعات والعصابات، والأهم من هذا ما إذا كانت الجماعة الحوثية المشهورة بنكثها بالعهود وخلفها للوعود وتنصلها من المواثيق، ما إذا كانت ستتعامل بصدق مع الأشقاء في السعودية، ولن تسلك سلوك "الشرعيين" الذين أخذوا من السعودية كل شيء، وسلموا الجمل بما حمل لمن كانوا بالأمس أعداء السعودية، يقصفون مدنها ومنشآتها الاقتصادية ومؤسساتها المدنية بالسلاح السعودي الذي كانوا يشترونه من معسكرات الشرعية، حينما قال صالح الصماد قبيل مقتله بأيام "القات مقابل السلاح".
ما تسربه وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي من عناوين لما يعتقد أنه سيتمخض عن تلك الاتصالات يمثل مجموعة من الترضيات للحوثيين، مثل الحديث عن توسيع دائرة المطارات التي يرحل منها وإليها الطيران مع صنعاء، وتسليم مرتبات للموظفين بموجب سجلات 2014م، وتعويضات الخسائر المادية والبشرية جراء الحرب، ولن يتردد الحوثيون عن تلبية طلبات السعودية لتأمين حدودها الجنوبية وإيقاف التسلل والتهرب وتهريب القات والسلاح والمخدرات ومختلف الممنوعات، لكن الجماعة تتوقع مقابل هذا أن تحصل على الاعتراف المباشر كدولة بديلة، ومع ذلك فإن الحوثيين لن يقدموا شيئا للداخل اليمني ولن يتوقفوا عن سياساتهم العنصرية والقمعية والسلالية تجاه الشعب اليمني، ولا عن نزعتهم التوسعية سواء تجاه الجنوب ومقدراته ومستقبل أبنائه، أو تجاه الجوار الإقليمي وما قد تنفذه الجماعة من أجندة الثورة الإيرانية القائمة على فلسفة "تصدير الثور" ونشر المذهب الجعفري الإثني عشري بالإكراه حيثما تصل أيدي مليشياتها وفرض سياسة الإتاوات والجبايات غير القانونية وانتهاك الحقوق الفردية والجماعية والأعراف والمقدسات القانونية والدينية والاجتماعية.
ويبقى السؤال المحوري في كل هذه اللوحة المتشكلة والمتغيرة وهو: ما مصير "الشرعية اليمنية" التي لم يعد يسمع عنها شيئا يذكر، وما مصير القضية الجنوبية في ظل تلك هذه الأحوال غير الثابتة على مستقر؟
أما الشرعية اليمنية فقد فوضت أمرها للأشقاء في المملكة ووكلتهم بأن يقرروا ما يرونه مناسباً، وأما القضية الجنوبية ومكانتها وموقعها وآفاق مساراتها القادمة فذلك ما سأتوقف عنده في لقاءات قادمة.