1
يكاد فصل الصيف في عدن وبقية المدن الساحلية أن يكون الكشَّاف السحري الذي يبين بجلاء إما كفاءة أو عدم كفاءة القوم الذين يديرون البلاد تحت ما يسمى ظلما بــ"حكومة المناصفة" ففي الصيف تتساقط كل أوراق التوت عن عورات أولائك القوم وتظهر هذه (الحكومة) عاريةً بلا أقنعة ولا كمامات ولا أغطية للثقوب والندوب والتشوهات والتجاعيد التي تغطي كل جسدها المترهل.
2
مع كل صيف وبروز ملامح أزمة الكهرباء وما يتناسل عنها من أزمات ومضاعفات جانبية تبدأ الحكومات في البحث عن التبريرات وتسويق المسببات للأزمة ولسان حالها يقول "لم نكن نعلم أن الأزمة ستصل إلى هذا الحد" أو كأنهم يكتشفون لأول مرة أن عدن وكل البلاد فيها صيف حارق وأن الكهرباء والوقود هما العنصر الحاسم في مواجهة حرائق الصيف وتبعاتها القاتلة، ويذهبون لإرسال الوعود وقطع العهود أن الحل النهائي سيأتي بعد ستة أشهر، أي بعد انتهاء الصيف ومجيء فصل الشتاء، وليتهم يفعلون شيئا، بل إنهم ينسون أن صيفاً قادماً سيحل من جديد، فتتكرر الحكاية للمرة الألف، وكأن حكام هذه البلاد مقاولون في إدارة البلد باليومية.
3
وهذه القصة تذكرني بإحدى قصص الأطفال عن الكلب الضال الذي كان يعاني من التشرد وبرد الشتاء القارس فما أن يحل عليه الليل حتى يذهب للبحث عن مخبأ يلوذ به من صقيع البرد، ولما تعييه الحيلة يتعهدُ لنفسه بأن يبني بيتاً في الغد، وما إن يحل النهار حتى يستمتع بحرارته وينسى حكاية البرد وخطة بناء البيت.
4
في عدن وبقية محافظات الجنوب بدأت ملامح جديدة للانهيار تتجلى على مرأى ومسمع الجميع وبعضها يحدث للمرة الأولى، فعندما يتجاوز سعر الصرف 400 ريالا يمنياً للريال السعودي، وقرابة الـ 1500 ريالاً للدولار الأميريكي، وعندما تزود محطات الكهرباء (التي أصلاً لا تغطي إلا ساعتين أو أربع ساعات طوال النهار ومثلها أثناء الليل) عندما تزود بوقود مغشوش يتسبب بكارثة بيئية تؤدي إلى اختناق سكان المناطق المحيطة، وعندما يُمارَس القتل نهاراً جهاراً في وسط العاصمة، وعندما تعجز بعض الأسر عن توفير قيمة الخبز والماء، وعند ما يعجز جريح الحرب (ولا أقول المريض العادي وهم بالآلاف) عن الحصول على جرعة الدواء المسكن للآلام، وعندما . . وعندما . . وعندما . . فإن هذا يعني أن بقايا الدولة في طريقه إلى الاضمحلال الكلي، وهو ما يعني الانهيار الشامل بكل المعاني.
5
رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وهما المسؤولان الرئيسيان عن حال البلاد (مع عدم إعفاء البقية) يتجولان بين العواصم الأوروبية والعربية ومن يتابعهما يعتقد أنهما يساهمان في حل الأزمات العالمية كحرب روسيا ويوكراينا أو الصراع الصيني الأمريكي أو أزمة الكوريتين، بينما هما وبقية أتباعهما يبحثان عن أفضل المنتجعات للاستجمام وقضاء أسعد الأوقات والاستمتاع بأجمل الأغذية والاسترخاء واستنشاق الهواء النقي الذي لم تلوثه أبخرة عدن ورائح مياه الصرف الصحي وأكوام القمامة التي تتكدس في نواحي العاصمة وبقية المدن وكل هؤلاء لا يهمهم ما يعانيه مواطنو بلادهم (المفترضة) وطبعا لا يخشون مساءلة اية جهة، فهم طارئون على الحالة السياسية ولم يصلوا إلى مواقعهم بسبب افضلياتهم المهنية او الوطنية والأخلاقية، والذي جاء بهم لن يسائلهم على افعالهم.
6
الشعب الجنوبي من أغرب شعوب العالم في صموده وتضحياته ومواجهة التحديات وكسر الخصوم، فنحن الشعب الوحيد الذي وقف في وجه الطغيان وقدم أكثر من عشرة آلاف شهيد في فعاليات سلمية أعيى فيها الضحايا القتلةَ وأنهكوهم وهم يوجهون الرصاص إلى صدور الشباب العُزَّل، وحينما حانت المواجهة المسلحة تصدى لأقوى جيش في تاريخ اليمن وأكثر المليشيات المسلحة شراسةً وعدوانية وهمجية، ومع ذلك هزمهما في أقل من مائة يوم.
وبعد كل هذا يسلم انتصاره وأرضه وثروته وكل مصيره ومستقبله لتلاميذ الطاغية الذي ذاق هذا الشعب منهُ الأمرين، ليتحكموا بمستقبل أجياله، . . . وكما قلت لأحد الزملاء: والله لو قام سلفادور دالي رائد المدرسة السريالية في الفن التشكيلي لشهد لشعب الجنوب بأنه يتفوق عليه في صناعة السريالية السياسية.
7
ما يعانيه الجنوب والجنوبيون من مرارت وعذابات وآلام متواصلة منذ العام 1994م وعلى وجه الخصوص في السنوات الأربع الأخيرة، منذ اتفاق الرياض ونهاية مشاورات الرياض (ابريل22م) ليس محض صدفةٍ ولا بسبب شحة الإمكانيات، ولا حتى بسبب سوء الإدارة ومحدودية كفاءة الطبقة الحاكمة، بل إنه أفعالٌ متعمدة وسياسات ممنهجه تمثل عقاباً للشعب الجنوبي على ثورته السلمية ومقاومته المسلحة وشجاعته في وجه مستبديه ومطالبته باستعادة دولته، وطالما حكامه هم أعداؤه وتلاميذ مدرسة الطغيان التاريخي الذي ثار ضده فلا يمكن أن نتوقع خيراً من هذه الوجوه المزينة برونق الزيف وطلاء التصنع البهتان المبين.
8
وقبل أن تحل كارثة الانهيار الشامل الذي تلوح معالمه في الافق فإنني أجدد ما كنت قد أشرت إليه في آخر منشور لي "للخروج من مأزق الازدواجية" وهو مطالبة المجلس الانتقالي باتخاذ قراره الحاسم بالانسحاب من حكومة الفساد والكوارث والالتحام بالشعب الذي سيعلن ثورته في وجه الجميع.
وسيكون المكان الطبيعي للمجلس الانتقالي وشركائه هو الشارع المنتفض بملايين الجنوبيين الذين لم يعد لديهم مساحة للصبر وتحمل العذابات ولا للاستسلام للاختناق والموت البطيء الذي صنعته الحكومات المتناسلة عن عن 7 يوليو 1994م.
والله من وراء القصد.