منذ نحو أسبوعين دشن إعلام إسطنبول وأصدقاؤه حملة تشنيع على التاريخ الجنوبي ما بعد الاستقلال الوطني في نوفمبر 1967م وتأسيس الدولة الوطنية الجنوبية التي أتت كثمرة لنضال طويل (سلمي ومسلح) خاضه الشعب الجنوبي على مدى 129 عاماً، الدولة الجنوبية التي جاء تاسيسها على خلفية اندماج أكثر من 22 سلطنة ومشيخة وإمارة شملت مساحة الجنوب من المهرة حتى باب المندب.
وكعادتهم يختصر الصبية المهيمنون على تلك المؤسسات (الإعلامية) كل التاريخ الجنوبي في ما يسمونه جرائم التصفيات الجسدية في السبعيات، مشطبين على نضال قرن ونصف من معارك المواجهة من النظام الاستعماري ومعتركات البناء الوطني، ولم يفوتوا فرصة استدراج بعض الشخصيات السياسية والدينية،التي كان كثير من الجنوبيين ينظرون إليها بتوقير واحترام للإدلاء بشهادات لا تخلو من التحامل والمبالغة وخطاب التحريض واستدعاء الضغينة والكراهية التي تجاوزها الشعب الجنوبي بحكمته وبتبنيه مبادئ التصالح والتسامح التي تحتاج إلى مزيد من التعميق والتوطين في وعي ووجدان أبناء الجنوب.
ومع الإقرار بأن تاريخ الجنوب، قبل وبعد الاستقلال لم يكن تاريخاً ملائكياً وكان مصحوباً ببعض الشطحات التي ألحقت أضراراً بشرائح وفئات وطنية مهمة من المجتمع الجنوبي فإن كل تلك الشطحات والأخطاء والخطايا ذات الصبغة الفردية، في معظمها، لا يمكن مقارنتها بما تعرض له كل الشعب الجنوبي من ظلم وتنكيل وتقتيل جماعي مباشر وغير مباشر ،بعد جريمة حرب 1994م على الجنوب.
ومن المهم الإشارة هنا إلى إن هذا الإعلام (الوحدوي جداً) يركز على أحداثٍ جرت في محافظتي شبوة وحضرموت، ولا يتناول الجرائم البشعة التي ارتكبها نظام صنعاء طوال مراحل مختلفة بلغت حد تفجير المنازل وأحراق النساء أحياء، والقتل أثناء التحقيق وتهجير عشرات القرى والمناطق قسراً على طول مساحة الجمهورية العربية اليمنية (السابقة) وغير ذلك من الجرائم التي لن تغمرها رمال التاريخ المتحركة، فضلا عن جرائم ما بعد 1994م في حق الجنوب والجنوبيين.
ومرة أخرى أقول: إننا لسنا بصدد الدفاع عن هذه الأخطاء كما يفعل اساطين تحالف 1994م، ويمكننا القول إنه كان بإمكان سلطة دولة 1990م وبشكل أدق سلطة ما بعد 1994م أن تعالج آثار تلك الحالات ورد الاعتبار للمتضررين وتعويضهم بافتراض أن هذه السلطات هي وريثة الدولة الجنوبية بكل ما في رصيدها من مكاسب ومصالح وثروات وسلبيات.
لكن سلطات 1994م لم تأخذ من ميراث دولة الجنوب سوى الثروات والمنشآت والموارد وأبقت على تلك الأخطاء والخطايا لتوظيفها في استبقاء أبواب العداوات بين ابنا الجنوب مفتوحة لأطول مدىً ممكن.
ما يمكن التعرض له حول هذه القضية نستطيع تلخيصه في الآتي:
١. كما فعل تحالف 1994م يصر الصبية القائمون على هذا (الإعلام) على الخلط المتعمد بين الشعب الجنوبي، وبين الأفراد الذين كانوا قائمين على سلطات الدولة في تلك المرحلة ليحملوا الشعب الجنوبي أخطاء هؤلاء الأفراد، كي يُخرِسُوا ضحايا حربهم الظالمة وسياساتهم الإجرامية تجاه ابناء الجنوب شعبا وهويةً هذه السياسات التي لم تبقِ أسرةً ولا منزلاً إلّا ووصلت إليه، والهدف من وراء هذه الحملات الحاقدة هو أن يكفَّ هؤلاء الضحايا عن مطالبتهم بحقهم المشروع في استعادة دولتهم، مع الحرص على استمرار إذكاء الضغائن والأحقاد بين الجيل الجديد من أبناء الجنوب.
٢. يعتقد القائمون على هذا (الإعلام) وبغباء شديد أنهم بهذه الحملة المسعورة والمبالغ فيها، إنما يوجهون ضرباتٍ قاضيةً إلى قيادة الثورة الجنوبية وعلى رأسها المجلس الانتقالي الجنوبي وحلفائه من المكونات السياسية الجنوبية، دون أن يدركوا (ومن أين للصبية أن يدركوا) أن قيادات الثورة الجنوبية هم من الجيل الذي لا علاقة له بسياسات ومواقف تلك المرحلة التي يتحدثون عنها، بل إن بعض قيادات الانتقالي وشركاءه قد تعرضوا للتضرر، بهذا الشكل أو ذاك، من تلك السياسات والشطحات الخاطئة، لكنهم استطاعوا تجاوز كل ذلك باختيار مستقبل التصالح والتسامح والتعايش السياسي، وترك الماضي بمحاسنه ومساوئه للتاريخ والمؤرخين.
٣. إن تركيز تلك الحملة على الحزب الاشتراكي اليمني وقيادته، إنما تمثل استمراراً لحملة ما قبل وما بعد 1994م ، وهم يكررون جريمة ١٩٩٤م عندما يخلطون بين الحزب الذي كان حاكماً وبين الشعب الجنوبي، لكن هذه الحملة تأتي بلا مناسبة لعدة اعتبارات يطول الخوض فيها من أهمها إن القيادة الحالية للحزب الاشتراكي هي من الجيل الجديد المتحرر من أخطاء تلك المرحلة، ثم إن هذه السهام الإعلامية الطائشة المشحونة بعبوات الحقد والكراهية تذهب في الاتجاه الخطأ نحو قوة سياسية هي اليوم جزء من التحالف المؤيد للشرعية والمدافع عن مشروع الدولة وهو ما يكشف التخبط الذي يعيشه القائمون على ذلك (الإعلام) البائس.
٤. إن الضربة القاضية التي يعتقد صبية هذا (الإعلام) التعيس أنهم يوجهونها للمجلس الانتقالي لا تهز لهذا المجلس شعرة واحدة بقدر ما تصيب طيف واسع من الأسماء التي هربت من قارب الثورة الجنوبية لتلتحق بقطار شرعية ١٩٩٤م ووريثتها شرعية اليوم، وأصحاب هذه الاسماء، إما يشغلون مواقع مهمة في صفوف تلك الشرعية أو إنهم يقفون في الصف المعارض للمشروع الوطني الجنوبي.
إن العزف على وتر الصراعات والخلافات الجنوبية قد غدا لعبةً مكشوفةً ملَّ الجنوبيون سماعها بعد أن غادروها منذ زمن، واتجهوا صوب المستقبل، وإن كان هذا لا يعفي الدولة الجنوبية القادمة من تصفية مخلفات تلك المراحل من خلال ما صار يعرف بقوانين العدالة الانتقالية، لا بغرض الانتقام وتصفية الحسابات بل بغرض جبر ضرر الضحايا وتعويضهم ورد الاعتبار لهم، وتجسيد مبدأ التسامح والتعايش السياسي المستقبلي.
لكن السؤال المفتوح هو: من سيجبر أضرار ضحايا مرحلة ١٩٩٤-٢٠٢٣م من الجنوبيين ومن سيرد لهم الاعتبار ومن سيعوضهم الأضرار المادية والجسدية المعنوية التي عانوا منها وما يزالون على مدى ثلاثة عقودٍ متواصلة؟؟؟
*- عيدروس نصر ناصر