ما يزال العالم يستحضر قصة أهل بيزنطة ومجادلاتهم المشهورة حول “أيهما أسبق البيضة أم الدجاجة”، هذا الجدل الذي شغل القوم عقوداً من الزمن حينما كانت عاصمتهم عرضة للحصارمن قبل جيش الأعداء، حتى تسلل هؤلاء الأعداء إلى المدينة وسقطت من أيدي البيزنطيين ، فصارت قصتهم مضرب مثل لكل جدال فارغ خالي من المضمون أو تحايل لتتويه أصحاب القضايا الأصيلة بجدال لا هدف له ولا قضية فيه فيقال “دعوا هذه الجدال البيزنطي”.
نجح سياسيو الشمال، (وعندما أتحدث عن الشمال فإنني أعني الشمال السياسي وتحديداً النخب السياسية الشمالية الخائبة، وليس الشمال الجغرافي أو الشعب الشمالي الشقيق)، نجح هؤلاء في تتويه الشعب الجنوبي ونخبه السياسية وشغلهم عن قضيتهم الرئيسية المتمثلة باستعادة دولتهم، بقضية بيزنطية جديدة من الصناعة اليمنية، وهي إن الاولوية لإنهاء الانقلاب ثم بعد ذلك يمكن الحديث عن حل القضية الجنوبية.
وإذا كان سؤال بيزنطة له غلاف منطقي وهو أن البيضة لأ تأتي إلا من دجاجة والدجاجة لا تأتي إلا من بيضة، ومع ذلك تحول إلى وبال على أصحابه فإن “بيزنطية” اليمنيين لا منطق لها ولا أساس.
فأفضل سياسي يمني وأكثرهم تفهماً لقضية الجنوب، سيعبر عن كل معاني التضامن مع شعب الجنوب وقضيته وعن تفهمه لأسباب يأس الجنوبيين من تجربة وحدة 1990م لكنه لا يلبث إلا أن يعود إلى بيزنطية اليمنيين، فتسمعه يقول: نحن نقر أن الجنوب كان دولةً مستقلةً ذات سيادة، وإنه دخل في مشروع الوحدة طواعيةً مع الشمال، وبعضهم يقول أكثر من هذا، إن الجنوبيين كانوا أكثر وحدويةً من الشماليين، ونعترف إن الجنوب تعرض للظلم والغزو والتهميش من خلال حرب ١٩٩٤م وأن الحرب افرغت الوحدة من مضمونها، لكنه يعود إلى أولوية الدجاجة على البيضة، فيعتبر أن أسقاط المشروع الحوثي المدعوم من إيران له الأولوية على أية قضية أخرى، بما في ذلك القضية الجنوبية التي امتحدها في بداية حديثه وكرر فيها عشرات الروايات عن الحيز الذي احتلته أثناء “مؤتمر الحوار الوطني بصنعاء 2012/2013م”، وعندما تسأله أين هي مخرجات الحوار الوطني يقول لك لقد انقلب عليها الحوثيون وعفاش، وطبعاً وكما يعلم الكل فإن كل جبل الضجيج عن القضية الجنوبية في مؤتمر موفمبك لم يتمخض إلا عن فإرٍ مريض مات يوم ولادته.
ولنعد إلى قصة الأولويات بين القضية الجنوبية وموضوع الانقلاب لنذكر هؤلاء المتذاكين بالحقائق التالية:
إن الجنوبيين كانوا قد تصدوا للمشروع الانقلابي في أشهره الأولى مت العام ٢٠١٥م وتمكنوا من دحر القوات الحوثية وحلفاءها من عدن وكل مناطق الجنوب في أقل من مائة يوم، وحينها سلموا انتصارهم الاستثنائ والوحيد للشرعية دون أن يتخلوا عن شعارهم ومشروعهم الوطني ممثلا باستعادة دولتهم، بطبيعة لحال.
لقد حشد شرعيو الخارج أكثر من نصف مليون اسم كـ”جيش وطني” قيل إنه يمثل الملايين الخمسة والعشرين الرافضين للمشروع الحوثي، وبعد أن كان هذا الجيش على مشارف صنعاء، وتستطيع مدفعيته قصف مقر إقامة مهدي المشاط ومحمد الحوثي، تقهقر فجأةً وتراجع إلى أطراف مدينة مأرب مسلماً أربع محافظات شبه كاملةً للحوثيين واتجه نحو شبوة وأبين اللتين كان أبناؤهما قد حرروهما من الحوثيين وحلفائهم في العام 2015م.
وكان من نتيجة هذه الحالة الغرائبية توسيع مساحة هيمنة الحوثيين بعد تصفيتهم لحليفهم (الرئيس السابق) لتشمل أكثر من 95% من مساحة الجمهورية العربية اليمنية (السابقة) في حين بقيت مساحة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (السابقة) متحررة من أي وجود حوثي باستثناء المنطقة العسكرية الأولى التي لم يتضح بعد ما إذا كانت حوثية أم شرعية.
وحينما كان “الجيش الوطني” الهارب قد سلم مديريات بيحان الثلاث (بمحافظة شبوة) وحريب (بمحافظة مأرب) للجماعة الحوثية وتبخرت قواته كما يتبخر السراب، جاءت قوات العمالقة الجنوبية لتحرر تلك المديريات الأربع خلال 12 يوم فقط، وتعيدها إلى أيدي الشرعية المغتربة وجيشها الهارب.
لقد عجزت الشرعية و”جيشها الوطني” الجرار عن هزيمة المشروع الحوثي وهو في ذروة ضعفه وموسم انهياره، حينما كان التحالف العربي يرسل المليارات لدعم هذا “الجيش” وكان طيران التحالف لا يتوقف عن قصف مخازن الأسلحة والمعسكرات الحوثية وكانت صنعاء تحت مرمى هذا الـ”جيش الوطني”، فمتى سينتصر هذه الجيش المتبخر بعد أن فقد أهم نقاط قوته، وصار اليوم مجرد عشرات القوائم من الأسماء الوهمية؟. . . أفبعد هذا تطلبون من أبناء الجنوبيين أن ينتظروا قوة سحرية خفية ستتولد لديكم تهزمون بها الحوثيين وتسيطرون بها على صنعاء وتتفضلون على الجنوبيين بتقديم لهم دولتهم التي دفعوا ثمنها على مدى ثلاثين سنة عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمعوقين ومئات الآلاف من الموقوفين من أعمالهم والمطرودين من أرضهم والمهجرين من ديارهم؟؟؟
هناك من يقول: إنه إذا كان “لا يجوز فرض الوحدة بالقوة” فإنه “لا يجوز فرض الانفصال بالقوة” ويعتبر القائلون أنهم قد أفحموا الجنوبيين بهذا “الذكاء الأخرق”، . . فلقد فُرِضت (الوحدة) بالقوة في العام 1994م وانتهى الأمر، وحينها لم يتجرأ أحد منكم أن ينبس ببنت شفة تنديداً أو استنكاراً بكل التبعات التدميرية التي ترتبت على هذه الجريمة المروعة، واليوم فقط تذكرتم إنه تجب إدانة كل ما أنتجته “وحدة القوة” والضم والإلحاق والسلب والنهب، ثم إن الجنوبيين لم يفرضوا شيئا بالقوة، فهم اليوم أسياد على أرضهم، أما إذا كنتم تعتبرون طردهم لقوات التحالف الانقلابي هو “فرض بالقوة” فإنتم بهذا تؤكدون أنكم والانقلابيين شيءٌ واحدٌ ولا فرق بينكم وبينهم.
ويبلغ التذاكي بالبعض أن يقولك “إن وحدة 22 مايو ” كانت حدثاً صنعه اليمنيون (في الشمال والجنوب) بإرادتهم الحرة وإن (اليمنيين في الجنوب والشمال) هم من سيقرر مصير هذه الوحدة أو “الانفصال” كما يسمون مطالب الجنوبيين في استعادة دولتهم.
أصحاب هذا التذاكي الأخرق ينسون أنهم قالوا منذ قليل أن حرب 1994م قد أفرغت “الوحدة ” من مضمونها، وبالتالي فإنه يقرون بأن وحدة 7/7 لم يقرها (اليمنيون في الشمال والجنوب) بل قررها تحالف الحرب وتحكم في منتجاتها وما يزال على مدى ثلاثة عقود، وبالتالي فإن من يقرر مصير الشعب الجنوبي ومستقبله هو الشعب الجنوبي وحده، مثلما يقرر الشعب الشمالي مصيره لوحده ولا يجوز لا منطقيا ولا سياسيا ولا أخلاقياً أن يقرر شعبٌ مصير شعبٍ آخر.
تذكرني هذه الأضحوكة “البيزنطية ذات الصبغة اليمنية” قصة ذلك المحتال مع أهالي إحدى المناطق البدوية من رعاة الأغنام.
تقول القصة أن ذئباً كان يهاجم أغنام هؤلاء الأهالي ، بينما عجز الأهالي عن التصدي لأفعال هذا الذيب وشروره، فمر أحد المحتالين بهذه المنطقة وعرف قصة الأهالي مع الذئب وعقد معهم صفقة تنص على أن يقوم هو بمطاردة الذئب وقتله، بشرط أن يستمر في حكم هؤلاء الأهالي حتى مقتل الذئب، واستمر يفعل بهم فعائلَ أكثر مما يفعله بهم الذئب، وذات يوم جاء ابن ذلك المحتال ليبشر أباه أنه قد عثر على الذئب وقتله، فما كان من الأب إلا إن أوسع الإبن ضرباً وتهزئةً وتوبيخاً، ثم حذره مهدداً: إياك أن يعلم أحد من هؤلاء المغفلين أن الذئب قد قُتِل، فإن رزقنا سينقطع!!
لستم يا هؤلاء أكثر احتيالاً من ذلك المحتال وليس الجنوبيون بسذاجة وغباء هؤلاء الأهالي، كما أن الدجاجة التي تضعونها في المرتبة الأولى قد طارت من أيديكم هي وبيضاتها والحديث عن أولويتها لم يعد يجدي نفعاً فابحثوا عن خيبةٍ أخرى تداروا بها خيباتكم السابقة أو اصمتوا خيراً لكم.
قال تعالى “ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ” (صدق الله العظيم).