ما الفرق عند حنظلة بين أن تكون أرضه مغتصَبة من عدو خارجي أو أن يفعلها الأخوة بإسم الدين والوحدة؟ وهذا أشد مرارة وأقبح فعل. هنا ربما يتكاثف الإدهاش في أداء حنظلة، فتى العاشرة الذي تشرد في صباه من أرضه المحتلة. هو الطفل الكاريكاتوري الذي يقف على هامش الصفحات كبصمة للعلي الذي اخترقته رصاصة تحت عينه في نهار لندني مُضاء بشمس الديمقراطية العظمى التي تسمح عند الضرورة لبعض الرصاص أن تمر وهي تغض طرفها الكحيل، وتقيد الحادث ضد مجهول.
الجنوب احتله أخوته، أحرقوا زرعه، دمروا مدنه وقراه، هجَّروا نُخبه، ولم توثِّق دمه عينُ كاميرا واحدة من الاشقاء أو تلوِّح منظمة دولية بمنديل أبيض وتقول سلام على شعب يموت واقفاً.. يقتلونه تحت عناوين الوحدة والقومية والدين والجهاد، وبإسم أشيائهم المبتكرة، دون حق ودون عدل ودون إنسانية. و تواطأت، بالصمت، أنظمة وأحزاب وإعلام في سقطات أخلاقية عظيمة ودرس لن تنساه البشرية حين ينكشف لها في صفحات التاريخ حجم الجرم العظيم الذي نزل وينزل بحق أهل الجنوب، وكيف يُشنق شعب بأكمله إلى عمود “الوحدة المقدسة”، وكيف حاولت النخب في الداخل والخارج مواراة حقيقتها البشعة خلف شعارات نمطية وذرائع بائسة، حتى ولو كانت كُلفتها حرب إبادة ومجازر جماعية.
لم يعد لحنظلة وقت كاف لملاحقة الأحداث ولم تعد له خصوصية في “ربيع” أورقت حقوله موت ودمار، ولم يُبقِ حتى على التراب الذي وقف عليه المشرَّد الصغير.. لكنه مع كل ذلك سيجد في الجنوب ما يعيد إليه ذاكرة مكتظة بإلإطلالات الساخرة على صفحات الجرائد.
حنظلة الجنوبي ليس بحاجة إلى معالجة درامية ليتغير وفقاً للحالة الخاصة، فهو كفيل بأن يجد حوارات ويجد حكايات وسرديات لا مثيل لها في كتب المظلوميات البشرية، من زمن إخوة يوسف وحتى زمن الإخوان المسلمين. حتى أن محمود درويش لو استنطق الجنوب في قصيدة “أنا يوسف يا أبي” لقال أكثر مما خلده مارسيل خليفة بلحنه الذي ضمَّه أهل الفتاوى الدموية إلى مدوَّنة تكفيرهم، لانهم لا يفهمون في العقل العربي أكثر من وعاء لثقافة الجهاد في سبيل السلطة. أنا يوسف يا أبي، إخوتي عصبة من الأشرار، “… غاروا عليَّ وثاروا… وهُمو أوقعوني في الجُبِّ واتهموا الذئب والذئب أرحم من اخوتي… هل جنيت على أحد حين قلت بأني رأيت أحد عشر كوكباً…” وهكذا حكاية يوسف تتكرر في التاريخ ليس على الأفراد بل على الدول والشعوب.
لكل شعب متعب حنظلة، الصبي الخالد الذي تجمد بداخله الزمن، ذهب صاحبه “ناجي العلي” ومايزال يدير ظهره للناس، و”كفَّاه معقودتان إلى الخلف”.. حنظلة الذي “لا يفهم في مقاسات الأحذية”، لأنه حاف على أرض أرهقها بسطار الجندي وخف المليشي ونعل الجهادي ، منذ أن أشاح بوجهه شطر الجهات المعاكسة، لم يرتد البصر عن محياه، فحنظلة واقف إلى الأبد دون أن يستدير صوب الوجوه المثقوبة ضمائرها، واقف عبر الأزمنة يصور العرب أحداثاً ومرايا.
ارتبط العرب في العقود الأخيرة بحالتين هما: فلسطين والوحدة العربية، الأولى (فلسطين) أضاعوها تماماً، والثانية (الوحدة العربية) أنجبت لهم نموذجاً ستلعنه الأجيال إلى أبد الآبدين، نموذج الوحدة اليمنية التي حملت معها الدماء والرعب والمجازر والإلغاء والتهجير، وما تزال عقول العرب تلتزم الصمت إزاء هذا النموذج الهمجي للتوحد لأنه على مقاسات نُخب أرهقت الدنيا بجهلها و كبواتها.
لهذا فإن قضيتَي العرب القومية: تحرير فلسطين والوحدة العربية، ستجعل من حنظلة يقف ساخراً على “الحلم العربي” الملقى على قارعة الجغرافيا الجريحة بين القدس وعدن، مذبوحاً من الوريد إلى الوريد في مشهدية مأساوية، تسبقه فيها خناجر الفتنة التي تلمع من نصالها أيديولوجيات الاسلام السياسي بشقيه السني والشيعي لتدفع نحو معارك العودة إلى عرش الخلافة تارة وتارة إلى مدن كربلاء وثارات الحسين الذبيح بعد١٤٠٠ سنة.