لا أصدق الإشاعات ولا أؤمن بالتسريبات التي يصوغها بعض ناشطي التواصل الاجتماعي بحسن أو بسوء نية، لكنني أتعامل معها من منطلق معلوماتي المتواضعة في علم النفس والتحليل النفسي، لتفسير بعض الظواهر السلوكية، وأقيس عليها دوافع صاحب التسريب أو ناقله أو متداوليه، وخلفيات ذلك التسريب أو النقل والتداول.
كان آخر التسريبات تلك التي نشرت عبر بعض المواقع الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي منسوبةً إلى عضو مجلس القيادة الرئاسي طارق محمد عبد الله صالح عفاش، في اجتماعه بمكتبه السياسي، التي قال فيها (كما يقول التسريب) " نحن الشماليين ظلمنا الجنوبيين بكل تأكيد وتآمرنا على الوحدة وحولناها إلى احتلال"، ويضيف التسريب على لسان طارق "واليوم نقولها بوضوح: الوحدة انتهت والجنوبيين (الصحيح والجنوبيون) يسيرون في بناء دولتهم" وهناك تفاصيل أخرى أوردها التسريب لا ضرورة للتعرض لها.
عندي ألف سبب وسبب وجيه لعدم تصديق هذا التسريب، وسأحتفظ بهذه الأسباب لوقت الحاجة، لكنني سأفترض صدقية التسريب ولو بنسبة 1% لسبب بسيط، هو إن من لديه النخوة والرجولة وشجاعة القائد المحنك والمحترم لشعبه وقبل هذا لنفسه سيتخذ هذا الموقف، وقد فعلها القائد العربي العظيم الخالد أبدا الزعيم جمال عبد الناصر مع الشعب السوري حينما أيقن فشل الوحدة المصرية السورية، مع إنه لم يدخل سوريا غازياً ولم يهدم صندقةً واحدةً ولم يستولِ على حجرةٍ في منزل سوري ولا على برميل نفط أو ليرة سورية واحدة من موارد الشعب والأرض السورية، ولم يطرد عامل نظافةٍ واحداً من عمله.
ولدي ما يشبه اليقين أن يوماً ما سيأتي عاجلاً أو آجلاً حينما سيأتي قادةٌ جدد للشعب الشمالي الشقيق ويدركون هذه الحقيقة وسيعترفون بها ويعودون إلى العقل والمنطق ويتحررون من ثقافة "الفرع والأصل" و"الأغلبية والأقلية"، و"الغالب والمغلوب" و"الناهب والمنهوب" ولو فعلها قادة اليوم فإنهم سيدخرون عقوداً من عمر الأجيال الذي يضيعونه في التمسك بالمحال، ويعاندون الواقع وحقائقه جرياً وراء مصالح ضيقة لا تخدم لا الشعب الشمالي، وهي بكل تأكيد لا يمكن أن تخدم الشعب الجنوبي بطبيعة الحال، لكنها تخدم أقلية من الطبقة الطفيلية الشمالية، ومعها قلة قليلة من المتسولين الجنوبيين، وقبل هذا وبعده إنهم يعطلون حركة التطور في الشعبين الشقيقين في الجنوب والشمال على السواء.
نحن لا نتوسل ولا نستجدي لكننا نتمسك بالنصيحة التي قلناها في العام 2007م وهي أن وحدة الإكراه والإجبار بالقوة المسلحة هي احتلال واغتصاب، وأن مآلها إلى زوال طال الزمن أم قصر، ومنذ يومها تغير كل شيء في البلاد، واضمحلت ملامح وظهرت أخرى، واختفت وجوه وصعدت سواها، وغيَّر كل القادة من الأشقاء الشماليين قناعاتهم إزاء معظم القضايا والمقدسات (الوهمية)، إلا موقفهم من احتلال الجنوب فهم ما يزالون يعتبرونه مجدهم الأوحد الذي يزينون به زيفاً وبهتاناً الصفحات السوداء في تاريخهم، حتى وقد هلك نصفهم وتخلى الباقون عن "الجمهورية" و"الثورة" و"الديمقراطية" وأعادوا الإمامة من المقبرة إلى صدارة الواجهة السياسية وهم اليوم يتوسلونها مشاركتهم لها في الحكم بأي ثمن وبأي نسبة.
أعود وأقول: إن الاعتراف بالحقيقة والإقرار بها أمر محمود ومطلوب وعلامة من علامات الرجولة والشجاعة الأدبية والأخلاقية، وهو بنفس الوقت مدخلٌ سليمٌ لحلحلة التراكمات التاريخية من المساوئ، وتخليق ما سيتطلبه الواقع الجديد من مواقف وسياسات، لكن هذا الأمر لا ينبغي أن يكون مجرد حالةٍ تكتيكيةٍ أو مناورةٍ إعلاميةٍ أو نوعاً من الخداع السياسي لاستجداء التحيز أو كسب المواقف والتأييد العاطفي، بل إنه يجب أن يكون موقفاً سياسياً رسمياً صادراً عن مركز قيادة الدولة، ونتيجة اتفاق ثنائي بين الشمال والجنوب، يضمن الحقوق العادلة للشعبين وينظم العلاقة المستقبلية بينهما ويؤسس للشراكات القادمة الممكنة والمفتوحة الآفاق على الكثير من المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية وحتى السياسية.
إذا ما ظل الرئيس العليمي ورفاقه الشماليون متمسكين بنتيجة 7/7 فإنهم لا يضيفون سوى مزيد من ضياع فرص التعايش والتعاون على الشعبين الشقيقين، لكنهم بقليل من الشجاعة والعقلانية والمسؤولية يمكن أن يختصروا الطريق ويوفرون القوى والطاقات والمجهودات المادية والبشرية والمعنوية لحل المشكلة مع المشروع الفارسي المقيت بدلاً من صرفها في الخداع والاحتيال على الجنوب والجنوبيين بمسميات قد تكون لامعةً وبراقةً من تلك التي فقدت كل معانيها وجمالها بسبب استهلاكها في الاستثمار السياسي السيء وتسخيرها لتزيين الموبقات والجرائم وتصويرها على إنها مكاسب وإنجازات للشعبين الجنوبي والشمالي.
وحتى لا يتحجج المخادعون البلهاء والمروجون المتعيشون، بأولوية هزيمة المشروع الحوثي-الفارسي، وقصة "البيضة والدجاجة"، نرى أنه يمكن عقد الاتفاق الذي يضمن حرية الشعبين في استعادة دولتيهما واختيار مصيرهما المستقبلي ويلزم القيادتين الجنوبية والشمالية بالتصدي الحقيقي للمشروع الفارسي، وليس التنديد الإعلامي الكلامي التكتيكي وتسليم الأرض لأنصار إيران، وحشد الحشود لإعادة غزو الجنوب (كما ظل الأمر عليه طوال السنوات الثمان المنصرمة).
فهل سيفعلها الرئيس العليمي ومن معه من القادة الشماليين ويدخلون التاريخ كأبرز من كفروا عن سيئاتهم وعادوا إلى صواب العقل والحقيقة أم إنهم سيتمسكون بالسيئات والموبقات التي شاركوا في صناعتها ويصرون على إقناع الشعبين بأنها فضائل وحسنات ينتظرون عليها الثواب يوم القيامة.
"فَلَا تَضرِبُوا لله الأمثَالَ إنَّ اللهَ يَعْلَمُ وأنْتُم لا تَعْلَمُون"
صدق الله العظيم.