يتساءل الكثيرون ممن يتابعون المشهد العسكري على جبهتي مأرب والجوف: هل ما يدور هو فعلاً معارك جدية ينوي من خلالها الطرفان المتحاربان حسم الأمر أو إحداث تغيير جدي في ميزان القوى لحلحلة الأمور باتجاه الحل النهائي لهذه الحرب المتطاولة والعودة إلى طاولة الحوار بشروط المنتصر؟ أم إنها مجرد حركات استعراضية للفت أنظار أنصاره بتحقيق انتصارات وهمية أو جادة لحشد المزيد إلى الجبهات واستقطاب المزيد من تأييد الأنصار الخارجيين، ولا مانع من زيادرة الدعم المالي الذي جعل من أساطين الطرفين المتحاربين مليارديرات في خمس سنوات؟
الحقيقة أن اشتعال المواجهة في الجبهتين لا يمكن أن يكون مجرد حركات تمثيلية، لأن الحوثيين يرسمون خطط جادة للتوسع في المناطق القليلة التي حررها أبناؤها منذ 2015 في مأرب والجوف وما إسقاطهم لمديرية الحزم عاصمة محافظة الجوف إلا دليل على جدِّيتهم في مواصلة تحقيق هدفهم المركزي وهو تثبيت مشروعهم على كامل الشمال ومواصلة إيذاء مناطق الجنوب والثأر من أبنائها لما ألحقوها بهم من هزيمة منكرة قي العام 2015م، لكنهم (أي الحوثيين) يلاقون مقاومة عنيفة من قبل المجاميع القبلية في المحافظتين يسقط فيها ضحايا كثيرون، فالمواجهة بين الحوثيين وأبناء مأرب والجوف لا غبار عليها، ولا يمكن اعتبارها مسرحيات استعراضية متفق عليها أو حتى غير متفق عليها بين الطرفين، لكن هذه المواجهة الجادة تجرى على خلفياتها الكثير من الحبكات غير المعلنة التي تستهدف الاستثمار في الحرب من قبل أجنحة عديدة في الشرعية أولا ومن قبل الحوثيين أنفسهم، وتلك تفاصيل يمكن التعرض لها في سياق آخر.
مشكلة المقاومة الوطنية الجادة في كلٍ من الجوف ومأرب لا تختلف كثيراً عما جرى لنظيراتها في كل من عتمة وحجور ومناطق عديدة من تعز، حيث إن من يتحكم في توجيه الجبهات ورسم التكتيكات العسكرية وحتى الأهداف الاستراتيجية ليس طرفاً واحداً بعينه بل إن لكل طرف في داخل الشرعية أهدافه وتكتيكاته ووسائل تنفيذ خططه، فكل جبهة تحارب بمعزل عن بقثة الجبهات، وكأن كل جبهة دولة مستقلة منعزلة عن بقية الجبهات لا أصدقاء لها ولا داعمين، وهذا ما جرى عندما تجرأ أبناء عتمة في محاقظة ذمار وحجور في محافظة حجة، حينما تخلى عنهم الجميع وقاتلوا وحدهم حتى تمكن الحوثيون من إسقاط المنطقتين والبطش بأبطالهما، وهو ما يعرفه الجميع.
من المفارقات الغريبة في الأزمة اليمنية أن المقاومين الجنوبيين وقياداتهم السياسية يتألمون للهزائم التي يتعرض لها أنصار الشرعية في الجبهات الشمالية المواحهة للحوثية في حين يحشد هؤلاء وقياداتهم المتنفذة المنهزمة قواتهم الرسمية وجحافلهم القبلية باتجاه محافظات الجنوب، وهو ما يمكن تناوله أيضا في وقفة لاحقة، لكن معظم الجنوبيين يرون أن الحفاظ على محافظتي مأرب والجوف بعيدا عن هيمنة المشروع الإيراني أمراً مهماً لأنه يصب في خدمة استعادة سلطة الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي لمناطق الشمال ومن ثم الذهاب باتجاه تفعيل المسار السياسي ومعالجة جميع الأزمات وفي سياق ذلك حل القضية الجنوبية وفقا لما يتطلع إليه الشعب الجنوبي بسواده الأعظم.
سقوط مديرية الحزم لن يكون نهاية المعركة، لو وجدت قيادة موحدة، في الخنادق وليس في الفنادق، قيادة تخرج من حالة الاسترخاء والنعاس المزمن، لتعيش حياة الجنود والمقاتلين القبليين الذين يسقطون كل يوم دفاعا عن الأهداف التي يعلن عنها المقيمون في الرياض والقاهرة واسطنبول ولا يبذلون أبسط الجهود من أجل تحقيقها. لكن استمرار هذه الوضعية الغرائبية التراجوـ كوميدية قد تؤدي إلى سقوط المزيد من المناطق وربما كامل محافظتي الجوف ومأرب وما يمكن توقعه بعد ذلك من تداعيات كارثية.
أخيرا: كل ما قيل أعلاه لا يمكن أن يستبعد من بين الكثير من الاحتمالات احتمال أن هناك من بين الشرعيين من يتمنى سقوط كل محافظات الشمال بيد الحوثيين وأتباعهم، ليبحث له ولأتباعه عن وطن بديل في الجنوب، وهؤلاء أعلنوها مراراً دونما أدنى شعور بالخجل من فضيحة الاندحار المخطّط له وعار الهزيمة المدبَّرة.