لا غرابة إن وصلتْ ــ أو توشك ــ الأمور إلى مفترق طرق بين القوى الجنوبية التي تتبنى مشروع استعادة الدولة الجنوبية، ومعها أيضاً القوى الجنوبية التي تتبنى مشروع الدولة الاتحادية من إقليمين بحدود عام90م، من جهة، وبين السلطة المسماة بـ«الشرعية» (المعترف بها دولياً) التي يرأسها الرئيس عبد ربه منصور هادي، ويهيمن عليها حزب «الإصلاح»، بما فيها حكومة أحمد عبيد بن دغر، من جهة أخرى. فالشراكة التي تمت بين الطرفين (الجنوب و«الشرعية») ومعهما القوى الجهادية المتنوعة، بالتخندق بجبهة حرب واحدة منذ بدايتها، لم تكن أكثر من شراكة مؤقتة، أو قُل «شراكة الضرورة». شراكة جمعها خصم واحد: «قوات صالح والحوثيين»، بالإضافة إلى الضغوط الخليجية التي مارسها «التحالف»، السعودية والإمارات بالذات، من أول يوم للحرب على كل هذه الأطراف، للانضواء تحت مظلته ترغيباً أو ترهيباً، لتمرير أهدافه المعلنة وغير المعلنة من هذه الحرب.
هذا الفراق الذي يتبلور يوماً إثر يوم بين الطرفين، برغم مواصلة السعودية، ومعها إلى حدٍ ما الإمارات، جلوسهما فوق غطاء «المرجل» الفائر، هو نتيجة طبيعية لاختلاف المشاريع السياسية وتضادها بشكل تام بين كل الأطراف المتكدسة اليوم في جغرافيا واحدة، هي: الجنوب.
فالقوى الجنوبية ــ باستثناء الجماعات الجهادية ــ وإن حاربت ضد القوات «الحوثية الصالحية» تحت راية «التحالف»، إلا أنها حاربتها باعتبارها قوات احتلال. و«الشرعية» حاربتها باعتبارها قوات «انقلابية»، هذا فضلاً عن محاربة «التحالف» لتلك القوات باعتبارها «أذرع إيرانية» باليمن.
فهذه النظرات المتفاوتة لهذه القوى تجاه الخصم «الحوثي ــ صالح»، تؤكد بما لا يترك مجالاً للشك أن المشاريع السياسية مختلفة تماماً، برغم توحدها ضد خصم واحد، وبالتالي فلا غرو أن تبدأ الخلافات بمجرد بداية تلمس كل طرف طريقه نحو تنفيذ مشروعه السياسي من خلال السعي للاستحواذ على النصرين العسكري والأمني المحققين على الأرض.
فلولا هذا الضغط الخليجي على فوهة طست الأوضاع المضطرم بحدة - في الجنوب على الأقل - لكانت الأمور قد شهدت افتراقاً مبكراً، إن لم يكن صداماً مبكراً وخضة عنيفة، بين الطرفين، بل بين كل الأطراف التي تمور بها الساحة الجنوبية، بما فيها الأطراف الدينية المتمثلة بالجماعات الدينية المتشددة. فالحاجة الخليجية لإبقاء هذه التوليفة لوقتٍ أطول، وتعثر الحسم العسكري وانغماس القدم السعودية بأعماق الرمال اليمنية الغائرة، حالَ دون تسريع هذا الصدام.
فـ«التحالف» يرى أن صداماً من هذا القبيل، بهذا الوقت، سيعني له بالضرورة تفككاً لأوصاله وتشظياً لجسده المنهك أصلاً طيلة ثلاث سنوات حرب، وسيفضي بالمحصلة الأخيرة إلى هزيمة صريحة له. ولهذا نراه يعمل على كبح أي توجه نحو الصدام، أو على الأقل يسعى لتأجيل صدام لا مفر منه.
ولكن، برغم كل هذا، يبدو أن التحكم الخليجي بكل أطراف خيوط شركائه أضحى من الصعوبة بمكان أن يحققه كله بعد أن تلاشت عوامل الثقة بين كل هذه الأطراف، وعلا وقع خطاب الخصومة فوق الرؤوس، وبعد أن طال أمد هذه الحرب، وبات كل طرف يتوجس شكاً وريبة من نوايا الآخر، وبالذات بين «الانتقالي الجنوبي» والحكومة، وقد طفت فعلاً إلى السطح بوادر للصدام بينهما، وتطور بشكل دراماتيكي في الأيام الماضية على شكل سجال إعلامي سياسي قوي ينبئ عن أزمة سياسية عميقة، تكبر ككرة ثلج متدحرجة فوق الجميع، ومصحوبة بعاصفة من التصريحات وسيل من بيانات التحدي، إلى درجة يمكن القول معها إن الأمور قد وصلت إلى مرحلة كسر العظم، بوتيرة أكثر مما كان متوقعاً، وسادتْ معها لغة التحدي والتحضير للنزال على الأرض.
الشعور الذي يستبد بالمجلس الانتقالي الجنوبي، ومعه قطاع كبير من النُخب الجنوبية، جرّاء الخديعة التي وقع بها، والاستثمار الواضح الذي تجنيه «الشرعية» بما فيها حزب «الإصلاح» والفئة النفعية الجنوبية المحيطة بالرئيس هادي، لتضحياته الكبيرة ولنصريه العسكري والأمني الكبيرين، وسعي هذه الأطراف إلى مسخ جوهر «القضية الجنوبية» والشعور الجنوبي بسياسة إقصائه من المسرح السياسي، وسياسية التجويع والإذلال، وتعمّد تلك «الشرعية» بكل تفرعاتها استدعاء خلافات الجنوب القديمة، وإذكاء نيرانها من جديد بوجه كل جنوبي يرفض الانصياع لمشروع الستة أقاليم، كل هذا فجر موجة غضب عارمة في الشارع الجنوبي ونخبه المختلفة، كما كان سبباً مباشراً للغة الغاضبة التي ظهَـرَ بها لأول مرة «المجلس الانتقالي الجنوبي»، على لسان رئيسه اللواء عيدروس الزبيدي، في بيانه الذي أصدره يوم الأحد الماضي، غداة لقائه ببعض قادة «المقاومة الجنوبية» الذي عُقد على خلفية الأنباء التي تحدثت عن وجود العميد طارق صالح بعدن، ومعه قوات عسكرية (بحسب ما يُشاع)، وما المهلة التي أعطاها «المجلس الانتقالي» - أو بالأصح قطاع كبير من «المقاومة الجنوبية» - في بيان شديد اللهجة للرئيس هادي بإقالة الحكومة والتلويح بفرض حالة طوارئ بسبب ما قال إنه تماد حكومي لفسادها وفوضويتها، وإلا فإنه سيتخذ إجراءاته بذلك، وما قابلها من لهجة تحد من قبل الحكومة ورئيسها بن دغر، إلا دليل على تعمق الأزمة بين الطرفين، وتوجهها نحو التصعيد، إن لم نر تدخلاً خليجياً سعودياً وإماراتياً لوقف ذلك أو التقليل من اندفاعه الجامح.
الشيء المؤكد أن «حزب الإصلاح» (إخوان اليمن)، قد استفاد كثيراً من مكاسب وانتصارات الجنوبيين العسكرية والأمنية ووظفها بدهاء وذكاء كبيرين لمصلحته دون أن يخسر كثيراً من طاقاته، بل ومن العجيب بالأمر أنه هو من بات يفرض شروطه على «التحالف»، وهو من أصبح «التحالف» يخطب وده، ويسعى لمراضاته في أروقة القصور الملكية الوثيرة، بعكس الطرف الجنوبي المحذوف خلف تلك الأبواب والعتبات.
ولكن الشيء المؤكد أيضاً أن الجنوبيين، وبالذات الذين انخرطوا معصوبي العينين مع «الشرعية» و«التحالف» ــ وعلى رأسهم المجلس الانتقالي ــ دون أية ضوابط أو شروط ولو من تحت الطاولة أو حتى تعهدات شفوية من «التحالف» والإمارات على وجه الخصوص أو من «الشرعية»، هم من يتحملون نتيجة هذا المآل، ويتحملون هذه النتيجة المتوقعة بعد أن ظلوا يخوضون حرباً بالوكالة للآخرين، وبالذات خلف الحدود بالمجان، وبكلفة بشرية هائلة لا تزال حتى اللحظة مستمرة.
وبالعودة الى السجال الذي دار أخيراً بين الحكومة و«الانتقالي»، فالنتيجة تظل مفتوحة على كل الاحتمالات، بما فيها الصدام المباشر، وإن لم يكن هذا في قادم الأيام القليلة، بسبب ما نتوقعه من تدخلٍ إماراتي لدى «الانتقالي»، برغم ما نعتقده من أن أبوظبي تقف بقوة خلف خطاب المجلس «الانتقالي»، وتمده من خلف الحجب بشيء من المدد الإعلامي والسياسي، رداً على الحذلقة التي يمارسها «الإصلاح» مع شركائه، والتدخل السعودي لدى الحكومة لفرملة ردود فعلها، ولو اضطرها ذلك لإجراء تعديل وزاري طفيف للتخفيف من حالة الاحتقان الشديد، إلا أن هذا التوتر وهذا الاحتقان قابل للمعاودة في أي لحظة، بعد أن وصلت الأمور إلى درجة اللاعودة والطلاق السياسي البائن بينهما، وإن أخّرته بعض الكوابح الخليجية إلى حين.