كرست قناة الجزيرة حلقتها من برنامج "ما وراء الخبر لمناقشة خبر تكرم الملك سلمان بإيداع ملياري دولار أمريكي لدى البنك المركزي اليمني حفاظا على العملة اليمنية من الانهيار بعد أن تجاوز سعر الصرف 500 ريال يمني للدولار الأمريكي الواحد وهو ما دفع رئيس الوزراء د. أحمد عبيد بن دغر إلى التوجه بالاستنجاد إلى الإشقاء لإنقاذ اليمن من مجاعة حتمية كما قال.
استدعت الجزيرة أحد ضيوفها المفضلين الذين لا يفوتون فرصة إلا ويلعنون دولة الإمارات ومعها دول التحالف لكن هذا ليس موضوعنا، لأن المذيعة التي تبحث عن إجابات على أسئلتها كانت تسأل عن الأزمة الاقتصادية فتلاقي ردود عن المؤامرة الإماراتية، لكنني سأتناول هنا أسباب انهيار قيمة الريال اليمني الذي صار الألف منه أقل من دولارين، أي ما يساوي قيمة كوبين من الشاي في مقهى شعبي متوسط الدرجة. أي أن من يستلم خمسين ألف من موظفي الدولة (وليس كل الموظفين اليمنيين يستلمون هذا المبلغ) يصبح راتبه الشهري يساوي مائة كوب من الشاي.
لست خبيرا اقتصاديا لكن ثقافتي المتواضعة تقول لي أن استقرار سعر العملات الأجنبية (الصعبة) يتوقف على عدة عوامل أهمها: تنمية الموارد من العملة الأجنبية، وهنا تدخل الصادرات النقدية من المنتجات المحلية التي يتم تصديرها إلى الخارج بالعملة الأجنبية فتشكل موردا مهما لميزان البلد من العملة الأجنبية ما يعزز من قيمة العملة المحلية، ولذلك نلاحظ أن البلدان المصدرة للبترول أو الذهب أو المنتجات الصناعية أو السمكية أو الزراعية الهامة تمتلك عملة قوية وثابتة السعر بالدولار الأمريكي الذي هو معيار أسعار جميع العملات.
العامل الثاني هو مستوى الاستقرار الاقتصادي فكثير من البلدان قد لا تكون مصدرة للمنتجات الثمينة لكنها تشهد استقرارا اقتصاديا يشمل توازنا بين مستوى إنتاج البلد ومستوى الاستهلاك وبالتالي فإن هذا يشكل عاملا مساعدا لاستقرار سعر الصرف.
والعامل الثالث هو عامل محاربة الفساد، فالشفافية والتقيد بمعايير النزاهة من شأنها أن تدعم الاستقرار الاقتصادي وتنمي الانضباط للمعايير الاقتصادية العالمية وبالتالي استقرار سعر الصرف للعملة المحلية.
ويأتي موضوع الاستقرار الأمني والاجتماعي، ففي أجواء الحروب والاضطرابات الأمنية تسود الفوضى وتنتشر العشوائية وتتعطل الآليات الاقتصادية وتؤدي الحروب إلى تفشي ظواهر العبث والسطو والتهريب فضلا عما عرف في اليمن من تسخير الحروب للفساد المالي والإداري كما جرى من قبل الجماعة الانقلابية التي نهبت ما قيمته أربعة مليارات دولار أمريكي وفوقها مئات المليارات من العملة المحلية هي كل الاحتياطي النقدي للجمهورية اليمنية وهو ما يعني حالة من الإفلاس تذهب البلاد باتجاهها.
يتساءل الكثيرون ماذا ستفعل المليارا دولار (الوديعة السعودية) للعملة اليمنية الذاهبة باتجاه الانهيار.
إن من شأن هذه الوديعة أن تعزز من الاستقرار في سعر العملة وتعيد شيئا من الثقة في قيمة الريال اليمني ومجرد وجودها في البنك المركزي اليمني سيساهم في التحكم في سعر الصرف ومنعه من الاندفاع بعيدا عن السيطرة، لكنها لن تحل الأزمة الاقتصادية وهي قد تكون علاجا مؤقتا قد يفرمل من عجلة الانهيار الذي يحذر منه الاقتصاديون، لكنها لا يمكن أن تحل الأزمة الاقتصادية التي تسير البلد باتجاهها.
إن الأزمة الاقتصادية في البلد ليست مستعصية الحل لكنها تتطلب سياسات مبتكرة يمكن لأي حكومة أن تتبعها وأهمها:
1. استئصال الفساد وكشف كل المتورطين في عمليات فساد عرف روائحها القاصي والداني، وإذا كان يستحيل على السلطة الشرعية محاربة فساد الانقلابيين فإن فاسدي الشرعية معروفون للجميع ويستطيع الرئيس عبد ربه منصور هادي بجرة قلم أن يحيل العشرات منهم إلى المحاسبة.
2. تنمية الموارد النقدية، من خلال التركيز على الموارد المتوفرة في المناطق المحررة وتحرير الثروات الوطنية من عبث الناهبين والفاسدين ورسم خطة وطنية شاملة لتنمية الموارد الحكومية وهي متوفرة وقائمة لكنها تخضع لسيطرة الناهبين الذين سيطروا عليها منذ العام 1994م ولن يتنازلوا عنها إلا بقرار رئاسي شجاع يمكن اتخاذه في سياق الحرب على الفساد.
3. إن هاذين الإجرائين يستدعيان تفعيل عمل أجهزة الدولة المعطلة وهو ما يستدعي عودة الحكومة وممارسة نشاطها وتفعيل القضاء والنيابة العامة وجهاز البحث الجنائي وتسخير الأجهزة الأمنية لملاحقة اللصوص والفاسدين والعابثين بدلا من تسخيرها لملاحقة الناشطين السياسيين المعارضين وأصحاب وجهات النظر المغايرة.
4. إن حماية العملة المحلية من الإنهيار لا يأتي من خلال التسول والبحث عن إعانات بل من خلال بناء اقتصاد وطني مستقل ناهض يتمتع بمقومات النماء وقابلية الازدهار، أما الإعانات المقدمة من الدول الصديقة والشقيقة فليس من شأنها إلا إن تقدم حلولا مسكنة قد تفرمل من الاندفاع باتجاه الهاوية لكنها لا تقضي على الأزمة طالما بقي الاقتصاد رهينا للفساد والعبث والتبعية والمحدودية وأنيميا الموارد.
قد يساهم الملياران في تهدئة عجلة الاندفاع باتجاه الهاوية لكن مفعولهما لن يلبث أن يزول ما لم تبادر الحكومة إلى ابتكار أساليب اقتصادية بمفاعيل بعيدة المدى تخلق بيئة سليمة للاستثمار وتوفير فرص عمل جديد وخلق قيم إنتاجية جديدة وتغطية احتياجات السوق وبالتالي تحسين مداخيل الأفراد وتقليص مساحة الفقر وردم الهوة بين الموارد والنفقات وتحسين درجة الاستقرار الاقتصادي وهي ظروف متوفرة للمناطق الواقعة تحت سيطرة السلطة الشرعية وقد لا تكون متوفرة للمناطق الواقعة تحت سيطرة الانقلابيين، لكنها تتطلب من السلطة الشرعية إرادة حرة وعقلية ابداعية وخطة شاملة وشجاعة عسى أن تتوفر لديها.