مهما اختلفنا مع بعضنا بسبب تفاوت الأفهام واختلاف العقول والقصور في فهم شخصية الداهية المارشال هادي بين مؤيد له ومعارض ومحب ومبغض إلا أننا في النهاية جميعنا سنرفع له التحية تقديرا وعرفانا لما صنعه وقدمه لنا كجنوبيين بالذات وللشمال كذلك وخاصة اليمن الأسفل وما هو ماض في تقديمه لهم لانتشالهم من المستنقع الذي أبقتهم فيه هيمنة الدولة الهادوية ، ورغم كل تلك الجهود والمحاولات التي يقدمها هادي لأبناء اليمن الأسفل إلا أنهم مترددون ومستميتون في تلكأهم في الوقوف الجاد معه ومساعدة أنفسهم ومساعدته على تخليصهم من تلك الهيمنة الهادوية التي جثمت عليهم لقرون خلت والتي يبدو انهم -أي أبناء اليمن الأسفل- قد استمرأوها بفعل عقدة الخوف ولن ينفكوا منها لأنها قد غرست في أعماقهم سلوكا لا يمكنهم الانعتاق منه .
إن شخصية المارشال هادي المثيرة للجدل بحكم صمته المريب قد جعلته مثار شك من الكثير وخاصة أبناء الجنوب الذين ظلوا يتعاملون معه بحذر وخوف شديدين ، فهو قليل الكلام ولا يفصح عما يريد وهذه صفة تشكل الجزء المظلم في شخصيته وتجعل منه شخصا غامضا حتى لدى أقرب المقربين منه ، وهذا الجانب المظلم في شخصيته والغموض الذي يكتنفه يمنح الرجل مساحة كبيرة للحرية والحركة والتفكير الحر ، فينفذ ما يريد بكل اريحية وهدوء ودون تأثير من أحد ، فتأتي قراراته صادمة وغير متوقعة لدى الكثير ، وسمة الغموض هذه سمة إيجابية من وجهة نظري ومطلوبة في رجل السياسة فما بالكم والرجل إلى جانب حنكته ودهائه السياسي هو مارشال حرب في المقام الأول صفة السرية والغموض ملازمة ولازمة له وشكلت الجانب الاكبر من شخصيته .
هادي بهذه الكاريزما والغموض في شخصيته تمكن من أن يخدع الكل وأن يكسب ود كل أقطاب الدولة الهادوية في نفس الوقت ودون أن يعرفوا حقيقته وأن أول المخدوعين بهادي كان المخلوع ومن بعده تهاوت بقية الأقطاب ، ولو أن المخلوع عرف شخصية هادي على حقيقتها لما سلمه السلطة وهو يبتسم ساخرا ولما وثق به كذلك العجوز علي محسن والإصلاح والمؤتمر ، فكل واحد من هؤلاء يظن في نفسه أن الرئيس هادي معه وحده وفي صفه هو ، فصدق فيهم قول الشاعر : " كل يدعي وصلا بليلى .. وليلى لا تقر لهم بذاك ".
ولكن في المقابل كان الرئيس هادي ينسج هناك على الضفة الأخرى خيوط وشراك شباك الإيقاع بكل هؤلاء وتحطيم أسس ومداميك الامبراطورية الهادوية ومركزها المقدس مستفيدا من خبرة اكتسبها بحكم قربه من تلك الأقطاب وفهمه لها مكنته فيما بعد بيسر وسهولة من تفكيك منظومة الدولة الهادوية تدريجيا ومن داخلها وبطريقة تصادم الأقطاب المكهربة حينا وبوسائل سلمية في ظاهرها حينا آخر كمؤتمر الحوار الذي أشرك فيه ممثلي الملكية الإمامية "الحوثة" ودفع بهم إلى الواجهة مستغلا حلمهم في استعادة حكم الإمامة وفي الضفة الأخرى أستفاد هادي من الزخم الثوري الذي ظهر به حزب الإصلاح منتشيا كأشبه ما يكون بالديك الرومي النافش ريشه زهوا وغرورا عقب ثورات الربيع العربي . فنشأ لدى الحوثي والإصلاح طموح السلطة وهو ما استغله هادي في إذكاء الصدام المسلح بينهما كتيارين مختلفين طامحين في السلطة فأزاح هادي بواسطة الحوثي تيار الإصلاح من أمامه كقوة عسكرية ممثلة بالفرقة الأولى وقبل ذلك حاول الرئيس هادي إزاحة المخلوع من المشهد بتفكيك قوته السياسية ممثلة بحزب المؤتمر فعمل على شقه إلى حزبين هما مؤتمر موال لهادي وآخر بقي يتبع للمخلوع وكذا سعيه لهيكلة قوته العسكرية ممثلة بالحرس الجمهوري والأمن المركزي والقومي وحقق هادي باللعب على المتناقضات كثيرا مما كان يخطط له ويحلم به ونجح في هذا نجاحا باهرا رغم أنه كان يحارب وحيدا كل تلك الأقطاب الطامح كل منها في الاستئثار بحكم اليمن . ولا زال الرئيس هادي مستمرا في نهجه ويمارس نفس الدور وبنفس الأدوات حينا وتجديدها وتنويعها حينا آخر وفقا لمقتضى الحال والمآل ، هذا على مستوى الوضع شمالا .
وأما جنوبا فقدم المارشال هادي الجنوب للجنوبيين على طبق من ذهب لم يكونوا يحلموا به ولو استمروا في نضالهم مئات السنين لما حققوا للجنوب معشار ما حققه لهم الرئيس هادي رغم عدم فهم كثير من الجنوبيين لشخصية هادي ولما يريده لهم من خير ، فقد ذهب بعضهم للتطاول عليه وتخوينه وعدم الثقة به والركون إليه ولا زالوا حتى اليوم في شك من أمره ، رغم ما قدمه لهم ولقضيتهم إبتداءا بالسماح لهم بإقامة المليونيات السلمية وإشراكهم كقضية رقم واحد في مؤتمر الحوار الوطني وصولا اليوم إلى بناء جيش جنوبي وأمن جنوبي ومخابرات جنوبية تفرض سيطرتها الميدانية على كل التراب الجنوبي ، وعلى المستوى المدني تم إعادة تأهيل ميناء عدن البحري ومطارها الجوي ومد كيبل بحري للاتصالات وبناء شركة اتصالات جنوبية ونقل المركز المالي إلى عدن ممثلا بالبنك المركزي وقبل ذلك نقل المركز السياسي إلى الجنوب ، فجعل عدن العاصمة السياسية للدولة والقادم أفضل .
إن رجلا تمكن من فعل كل ذلك بمفرده وحيدا دون أن يملك من الأسلحة إلا ذكائه وصبره وتحمله لهو رجل جدير بالاحترام والتقدير وشخصية نادرة ستخلد ضمن شخصيات صناعة التاريخ الإنساني .