لعبة شد الحبل بين سدنة الحرب الباردة سابقاً.. المتجددة حالياً، بلغت مداها الأقصى لتسجل فيها روسيا الاتحادية هدفاً ناجزاً في مرمى الولايات المتحدة، والشاهد على ذلك الموقف الروسي في معاضدة نظام بشار الأسد في سوريا، والذي تتوج بحضور عسكري جذري في الداخل السوري، سواء عبر منظومات الأسلحة الجديدة، أو عبر الحضور الميداني للخبراء العسكريين الروس. وبهذه المناسبة لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم نشر الخبراء عند السوفييت سابقاً وروسيا حالياً يبدو كما لو أنه مجرد مجموعة مدربين ومشرفين على إكساب العسكرية المحلية براءة استخدام السلاح الجديد، لكن الأمر يتجاوز ذلك بمراحل، ومن أراد التيقن مما نذهب إليه عليه مراجعة حرب فيتنام وحرب الأوغادين بين إثيوبيا والصومال، ليعرف أن مفهوم نشر الخبراء الروس يتجاوز مجرد التدريب وإكساب الخبرات العسكرية للفاعلين المحليين في المعادلة العسكرية.
واستطراداً على هذا المستجد الروسي يمكن قراءة الحراك الروسي الجديد على خط اليمن، حيث بادر السفير الروسي بتحرك عاصف ليبشر بنهاية قريبة للحرب في اليمن، وكأنه يراهن على تسوية ما تنخرط فيها الأطراف المعنية بالمواجهة المباشرة وغير المباشرة، لكن هذه التلويحات الروسية المتفائلة ما زالت في ثلاجة الانتظار البارد، خاصة وأن ميدان الكر والفر ما زال سيد الموقف على الأرض.
الاقتحام الروسي لخط الحروب المحلية المستعرة في سوريا واليمن لم يأتِ من فراغ، بل جاء من خلال فن الإدارة السياسية والعسكرية الروسية لمشاكل جورجيا وأوكرانيا، ففي كلا الملفين نجحت روسيا في إحراج الولايات المتحدة وحلف الأطلسي من خلال إخراج أوسيتا الشمالية من رحم الدولة الجورجية رغماً عن الولايات المتحدة، ووضع رئيسها اليميني (تشيكسفيلي) في جحر ضب لا فكاك له منه، وبالمقابل تمكنت روسيا من تدوير الأزمة الأوكرانية باتجاه فصل شبه جزيرة القرم، بل ضمها لروسيا عبر أدوات قانونية استفتائية انطلقت من كونها جمهورية مستقلة في الإطار الأوكراني.. لكنها لم تقف عند ذلك الحد، بل باشرت دعماً سخياً وشاملاً لروس شرق أوكرانيا الذين يجاهرون بالعداء لسدنة العاصمة كييف حتى يومنا هذا.
وبمقابل نشر الدرع الصاروخية الأطلسية على الحدود الغربية لروسيا سارعت موسكو برد استراتيجي غير معهود من خلال نشر قاطرة صاروخية تمتد على مدى الحدود الروسية المترامية، لتقدم رسالة ناجزة متعددة المترامي والأبعاد.. ذلك أن نشر القاطرة الصاروخية الروسية من طراز اسكندر بدا بمثابة رد مزدوج على الأطلسي ومن يناصرهم في الفناء الخلفي لروسيا.
كل هذه المقدمات جعلت البيت الأبيض يعيد النظر في ثوابت منطق التساهل والاستخفاف بالتحدي الروسي، وها نحن اليوم نرى ما يجري على خط التفاهمات الملغومة بين الولايات المتحدة وإيران، وذلك التراجع الإجرائي عن المطالب الأمريكية تجاه النظام السوري.. لكن التفاهم الافتراضي الضمني بين روسيا وأمريكا على خط اليمن يبدو أقرب منالاً وأكثر قابلية للتحقق استناداً إلى موافقة روسيا على قرار مجلس الآمن ٢٢١٦، والذي يستمد مرئياته من المبادرة الخليجية ومؤتمر الحوار الوطني اليمني، ويتسق مع موقف الحلفاء العرب وإسهامهم الجذري في مشروع استعادة الشرعية والدولة المخطوفة من قبل صالح والحوثيين.
ما سبق يؤشر إلى المتغير الجديد في العلاقات الروسية الأمريكية، وتضمين التحالف الأمريكي الأطلسي من جهة، والروسي الصيني من جهة أخرى.. غير أن هذه المؤشرات في وارد أن تنقلب دراماتيكياً بين عشية وضحاها، لأنها ليست توافقية صادرة عن قناعة مشتركة، بل عن سياسات كسر العظم التي بدأتها الإدارات الأمريكية الجمهورية المتعاقبة، وتوازت معها بعنفوان أشد سياسات الرئيس (بوتين).. الجامع بين التقاليد السوفييتية والنزعة الروسية القيصرية.
*- عن الخليج