الوحدة اليمنية الماثلة اليوم جاءت عطفاً على التوافق الوحدوي بين الشمال والجنوب اليمنيين في عام ١٩٩٠، وكان من المحتمل بل المؤكد أن رئيسي الشمال والجنوب إبراهيم الحمدي وسالم ربيع علي في سبعينات القرن المنصرم كانا على اتفاق بأن تتم الوحدة قبل ذلك بسنوات، وكان من المؤكد أيضاً أن تختلف نتائج الواقع الميداني عما حدث بعد وحدة مايو/أيار لعام 1990، استناداً إلى التوافق الجذري بين إبراهيم الحمدي وسالم ربيع علي من جهة.. مقابل عدم التوافق التام بين علي سالم البيض، وعلي عبد الله صالح من جهة أخرى، وهو الأمر الذي تجلَّت ملامحه لاحقاً، وأفضت إلى حرب ١٩٩٤، وما تلاها من تداعيات سلبية في عموم الساحة اليمنية.
جاءت تلك الحرب الظالمة بمبادأة سابقة عليها، قادها وأشرف على خرائبها الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وقد بدت ملامح التحضيرات لتلك الحرب بالترافق مع الأيام الأُولى للوحدة، حيث بدأت الاغتيالات السياسية الغامضة، ثم تواصلت باستهداف سافر للبنية المؤسسية والإدارية لدولة الجنوب السابقة على الوحدة.
كان واضحاً أن استراتيجية النظام تتلخَّص في مسح التجربة المؤسسية القانونية للجنوب، فالشروع تالياً في قمع المشروع الوطني الحداثي الشامل في عموم اليمن، وقد جاءت حرب 1994 لتفتح الباب واسعاً لهذا المشروع الجهنمي، وما تلاه من انتفاضة الحراك الجنوبي المطلبي، ثم حروب صعدة الستة التي كان هدفها الرئيسي تدمير الجيش الوطني، ليحل محله الجيش العائلي القبائلي تحت مُسمى الحرس الجمهوري. احتسب نظام صالح لكل أسباب القوة والمنعة.. لكنه لم يحتسب لحكمة التاريخ وقوانينه الموضوعية، ولم يحتسب لليمن الجديد الخارج من تضاعيف التطور الموضوعي الشامل، وكان صالح ومن يناصرونه يحفرون بداية نهايات مشروعهم بأيديهم، فالجيش الوطني الذي استُهدف في حروب صعدة الستة انقلب على النظام ليلتحق بالحراك الشعبي الشامل في عام 2011، وحزب الإصلاح الإسلامي السياسي انقلب على صالح ونظامه بعد أن أدرك أنه استخدمه مخلباً ضد الحزب الاشتراكي وتجربة الجنوب في حرب 1994 الظالمة.
الحوثيون تمترسوا عن حد الاستيهامات الطائفية السلالية ليكشفوا لاحقاً عورة النظام الصالحي من خلال تحالفهم الميكيافيللي معه،. لا ذنب للأدبيات السياسية اليمنية فيما آلت إليه الأمور، ولا يتحمَّل المسؤولية التاريخية الجسيمة لمآلات الوحدة اليمنية ووعودها البهيجة، سوى نظام علي عبد الله صالح الذي أوصل البلاد والعباد إلى حالة من التشظي والانقسام.. تمهيداً لتدمير منهجي طال الأخضر واليابس.
التجربة الوحدوية فشلت منذ الساعات الأولى لإعلان دولة الوحدة، وقد لمست شخصياً هذه الحقيقة المُفجعة منذ ذهابي إلى صنعاء قبيل إعلان الوحدة، ضمن مكونات تشكيل مؤسسات الوحدة، حيث ظهر جلياً أن نظام الجمهورية العربية اليمنية في شمال البلاد، اعتبر اللحظة التاريخية الواعدة بيمن كبير ومتطور، مجرد فرصة سانحة لتذويب الحزب الاشتراكي ونظامه في الجنوب، وراهن سدنة النظام في صنعاء على تعميم نموذج الفساد والإفساد في شمال اليمن، وتقريب الموظفين العمومين القادمين من الجنوب.. مقابل التحسب للذاكرة المعرفية والسياسية المقرونة بالحركة الوطنية الرائية لدولة نظام وقانون ومواطنة، وقد تكشفت هذه الحقيقة المُرعبة عندما شرعت الدوائر الإجرامية في الاغتيالات السياسية للقادمين من ذاكرة الجنوب المؤسسي الوطني، وهكذا انكشفت عورة نظام صالح الذي لا يقبل بأقل من تذويب تجربة الجنوب المؤسسية القانونية، واستمرت متوالية النفي العدمي للذاكرة، وصولاً إلى حرب البؤس والمظالم التي شنها نظام صالح على الجنوب في عام 1994، باسم الوحدة اليمنية.
بعد تلك الحرب مباشرة تبيَّنت الحقائق التراجيدية بأسرع مما كان يتصوره أكثر المراقبين تشاؤماً، فقد تمددت تلك الحقائق لتشمل الشمال والجنوب معاً.. غير أنها كانت أكثر وطأت في الجنوب حيث تم تسريح مئات، بل آلاف القياديين والموظفين العموميين، ليعتاشوا من رواتب تتضاءل يوماً بعد يوم، بقدر تنامي التضخم والفوضى المالية والإدارية، وبالمقابل سعت أجهزة النظام في الحاق الضعفاء أخلاقياً وسلوكياً بآلة الإجرام العام بحق البشر.
هذه الحقائق تمهد للانتفاضة الأولى للحراك السلمي الجنوبي.. ثم تنتشر كالنار في الهشيم، ليأتي «الربيع العربي» كرافعة كاسحة للنظام العربي المقيم في المفاسد والبؤس. في البداية كان الحراك الجنوبي مطلبياً فحسب، لكن عدم استجابة النظام للمطالب المشروعة أفضى إلى مزيد من التصعيد، وصولاً إلى المطالبة باستعادة دولة الجنوب السابقة على الوحدة، ومن سخرية القدر أن تتزايد متوالية المطالب الجذرية في الشمال والجنوب معاً، ففي الجنوب يطالب بعض روافد الحراك باستعادة سلطنات ومشيخات وإمارات ما قبل استقلال الجنوب، وفي الشمال لم يعد خافياً أن الحوثيين ومناصريهم يتوقون إلى استعادة الإمامة بقالب جديد يستمد نموذجه من نظام ولاية الفقيه في طهران.
الخليج