ارتبط في أذهان الكثيرين من أبناء الجنوب ذكريات مؤلمة في ذلك الخريف الأسود الذي يطل علينا كل عام عند الاحتفال بعيد استقلال الجنوب العربي في الثلاثين من نوفمبر عام 1967م, عندما هيمن صبية مراهقون ومغامرون على الجنوب من قيادات الجبهة القومية بمساعدة بريطانيا بعد أن وجدت فيهم ضالتها للتخلص من التزاماتها المادية والأخلاقية تجاه شعب الجنوب العربي الذي استعمرته (128) عاماً.
النكسة الأولى:
ذهبوا إلى جنيف وكل همهم استلام السلطة, والجلوس على كراسي الحكم بعد أن ارتهنوا لمخابرات دولية وإقليمية وقاموا بتغيير هوية شعب "الجنوب العربي" دون استفتاء ولا تقرير مصير, وعندما سمع اللورد شاكلتون مسمى "جمهورية اليمن الجنوبية" ذلك الإسم الجديد والغريب لأول مرة يطرح كمسمى للجمهورية الوليدة, بدلاً من مسمى "الجنوب العربي", قال بالحرف الواحد)) تفطر قلبي دماً عندما رأيت وفد الجبهة القومية يوقع على وثيقة استقلال شعب الجنوب العربي بإسم دولة أخرى)).
ولم تكن الجبهة القومية سيئة الذكر إلا نتاج غرس دخيل ونبتة غريبة سقتها ونمتها المخابرات المصرية بداية, ويمننتها بطريقتها الخاصة في تعز وسخرتها ولبستها عباءة ثورة 14 أكتوبر عام 1963م,وأنكرت من فجرها من رجال ردفان ، علمآ أن بريطانيا قد أعلنت أنها ستسحب قواعدها شرق السويس بعد هزيمتها في حرب السويس عام 1956م, تحت ضغط (أمريكي – روسي )"مشترك" وقررت رسميا أنها ستمنح الجنوب العربي استقلاله مطلع عام 1968م كحد أقصى, ونحن هنا لا نريد أن نستعرض تفاصيل ما سبق وما لحق ذلك من أحداث ومخططات مخابراتية بريطانية .. بما في ذلك تدمير بنية جيش الجنوب العربي والحرس الاتحادي وفصل قياداته العسكرية, واستبعاد كافة القوى الوطنية والزعامات التاريخية للجنوب العربي آنذاك, تمهيدآ لإنسحابها من الجنوب ....مع ما صاحب ذلك من تسلل المئات من خارج الوطن والهيمنة على التنظيمات السياسية والمدنية والنقابية التي تحمل "اليمن".
وتم تحويل مسمى "الجنوب العربي" إلى جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية, ولم يغب ذلك عن العقلاء والحكماء من رجال القبائل وقد ذكر لي أحد الأصدقاء أن محمد علي هيثم عندما زار منطقة العوالق بعد الاستقلال مباشرة عام 1968م, وقابل بعض مشائخ وأعيان القبائل سأله الشيخ: صالح بن سالم بن القروه الباراسي العولقي قائلاً:
لماذا أطلقتم هذا الإسم على الجنوب "جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية"؟
فرد عليه محمد علي هيثم: وماذا في ذلك الإسم؟
قال الشيخ صالح: سيأتي وقت يطالب فيه الأب بإبنه !! لأن التسمية اعتراف ضمني بذلك.
وكلنا نعرف ما جر علينا هذا الإسم من ويلات لاحقاً خاصة بعد سيطرة اللوبي الشمالي بقيادة عبدالفتاح اسماعيل على أهم مفاصل الدولة, وتم تغيير الإسم لاحقآ إلى:
"جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" وإلغاء اسم الجنوب نهائياً.
ولا نريد أن نستعرض التصفيات الجسدية التي قامت ومهدت لذلك العهد الأسود والتي شملت العلماء وفرسان القبائل ورجال الفكر والأدب من أبناء الجنوب العربي تمهيداً لإفراغه من رجاله الشرفاء, ومن ثم إحكام قبضتهم عليه وكان حصادها مراً, انتهت بحرب 13 يناير عام 1986م وسقط فيها أكثر من 10 آلاف من أبناء الجنوب.
النكسة الثانية:
بعد انقسام الرفاق فيما عرف لاحقاً بـ "الحزب الاشتراكي اليمني" وتشرذمهم إلى "زمرة" و "طغمة", وبعد إشارات من موسكو للبيض ورفاقه أن الاتحاد السوفيتي في طريقه للانهيار, نصحهم بالبحث عن حلفاء جدد.
ولم تكن بوصلة "البيض" الذي انفرد بالسلطة ترشده إلى جيرانه في الخليج, بل قادته أحلامه وتطلعاته إلى اليمن للهيمنة عليه بنفس شعارات اليمننة, وكلنا يعرف ما آلت إليه أحوال الجنوب فيما بعد, وما جرّت علينا أحلام الاشتراكيين من ويلات لازلنا ندفع ثمنها حتى اليوم, بما في ذلك حرب عام 1994م وسقوط الجنوب في أيدي المتنفذين.
وقد يقول البعض: يا أخي خلاص .. تصالحنا وتسامحنا, وكفانا اجترارآ للتاريخ !!
وأقول: أن هذه ليست محاكمة للحزب الاشتراكي الذي اختطف الجنوب منذ عام 1967, وشعبنالازال يدفع فاتورة هذا الاختطاف حتى اليوم, بل لتوضيح حقائق التاريخ والسياسة للعبرة والعظة, أما المحاسبة فهذا شأن شعب الجنوب.
النكسة الثالثة:
و لازلنا حتى اليوم ندور في فلك ((الهيمنة اليمنية ))على أرضنا وشعبنا وهويتنا, والفرق تبادل أدوار ليس إلا بالأمس تحالف ( صالح مع الإصلاح) عام 94م, واليوم في عام 2015م تحالف ( صالح وقواته مع ميليشيات الحوثي) ومنذالبداية كانت حربهم على عدن ومناطق الجنوب !!
بينما المحافظات الشمالية هادئة لا مقاومة فيها ضد (صالح والحوثي), بل ويدعم مواطنوها تلك القوات بالمواد الغذائية والمواشي , وكل الطرق سالكة إلى مدن الجنوب لدعم المجهود الحربي, أي بمعنى أنهم مهما اختلفوا فيما بينهم, فهم يتفقون علينا في نهاية المطاف.
و رغم الضربات الجوية الساحقة والمستمرة من عاصفة الحزم التي تضرب قوات صالح والحوثي, والمقاومة الباسلة التي نهضت تقاتل في محافظات الجنوب, إلا أن الفرق في المعادلة وميزان القوى ليس متساوياً بين الطرفين, ورغم عقد مؤتمر الرياض وحضور كافة الأطراف اليمنية, إلا أن الحضور الجنوبي كان شبه معدوم, ولم تحضره إلا أطراف وصولية وهامشية فغاب البيض والجفري والحراك الجنوبي والمقاومون في المحافظات, الذين قاطعوا المؤتمر. ولم يخرج إلا بوثيقة ترتكز على المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني وقرار مجلس الأمن رقم 2216. ولغياب الحوثي عن مؤتمر الرياض وقد فوجئنا بالأمم المتحدة تدعو عبر مندوبها الجديد لحوار يضم جميع الأطراف اليمنية في جنيف!!! والحقيقة أن مؤتمر جنيف سيكون حصانة لصالح وقواته, وكذلك للحوثيين عن أي مساءلة أو مسؤولية عن الدماء والخراب الذي حل بالبلاد من قبلهم, وسيكون المؤتمر حسب الأمم المتحدة العاجزة والفاشلة في حل قضايا الشعوب والذي سيشارك فيه الحوثي ليس كمكون سياسي وإنما عصابات تفرض سيطرتها على الأرض مقابل مقاومة شعبية تدافع عن كرامة الجنوب وشرعية خارج الوطن متمسكة بقرارات مجلس الأمن والمبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني ومؤتمر الرياض, وكلها وثائق غير قابلة للتنفيذ نظراً لتخاذل المجتمع الدولي.
والخطأ القاتل الذي تقوله الأمم المتحدة على لسان مبعوثها اسماعيل ولد الشيخ أحمد, أن على جميع الأطراف اليمنية الحضور والمشاركة دون شروط مسبقة, وهذا اعتراف منها أن الحوثيين جماعة سياسية لا ميليشيا مسلحة انقلابية.
وهذا يعني في المحصلة النهائية ما هو إلا مهزلة سياسية وخيانة واضحة لتضحيات وصمود الشعب اليمني, كما أنه يمثل اجهاضاً لكل القرارات العادلة, ويهدف إلى قبول سياسة الأمر الواقع.
إن مؤتمر جنيف هو محاولة أمريكية لإنقاذ الحوثي من ورطته, وفي الوقت نفسه موقف لإثبات حسن النوايا تقدمه أمريكا لإيران لتمكين الحوثي من اليمن وفرضه عليها بالقوة لضرب تنظيم القاعدة. واليوم تنظر أمريكا للجنوبيين كإرهابيين يستحقون العقاب!!!كما هم في نظر الحوثي "دواعش". وما أشبه الليلة بالبارحة ففي عام 1994م كان صالح والإصلاح يصفون الجنوبيين بالشيوعيين. فهل سمعتم بأوقح من هذه الدعاوي والتخرصات الكاذبة التي تعمم على شعب الجنوب بأسره!!
وفي الختام أن خير ما سيفعل هادي وحكومته هو عدم الذهاب إلى جنيف, حتى لا يشرعن لإنقلاب الحوثي – صالح.
والحل هو إشعال الجبهات في الجنوب ودعم المقاومة, فمثل تلك العصابات لاتعرف الا لغة القوة حتى تتغير موازين القوى وليذهب مؤتمر جنيف الى الجحيم لأنه لا يحمل لنا إلا أسوأ الذكريات .