ينتمي اللواء محمود أحمد سالم الصبيحي للمدرسة العسكرية الجنوبية، وليدة دولة الاستقلال عام 1967م، وهي تمتد بوشائجها التاريخية إلى مرحلة التأسيس والتطور في ظل الإدارة البريطانية بالشكل المؤسسي الحديث وبمزايا العقيدة العسكرية البريطانية، إذا استثنينا التجمعات القبلية وشبه النظامية في كيانات الجنوب العربي وبشاكلة أرقى من ذلك في حضرموت، وإلى حد ما سلطنة لحج.
وقد ترك لنا المؤرخ المخضرم سلطان ناجي - رحمه الله - ما يمكن الركون إليه عودة إلى التفاصيل وبحثاً في الخصوصية العسكرية الجنوبية نشوءا وتطوراً في سفره الضخم الموسوم بـ(التاريخ العسكري لليمن) والذي لم يقصره على الجنوب دوناً عن الشمال، مما يهيئ للدارس مادة ضخمة في هذا المضمار.
وما أشرنا إليه في مطلع هذا المقال نؤكده بما لا نجد سبباً لتجاهله، ونعني (المدرسة العسكرية الجنوبية) وليدة الاستقلال الوطني التي تمخضت عن عقيدة عسكرية وجيش حديث أشاد به خصوم النظام السياسي القائم في عدن قبل أصدقائه، حيث عد ذلك الجيش من أقوى الجيوش في المنطقة، وشبهه البعض بجيش ضارب في دولة صغيرة، وكأن التشبيه مقرون بإسرائيل من الناحية التقنية البحتة.
وكان اهتمام الدولة بالجيش والأمن لافتاً في دولة محدودة الموارد، ولكنه كان أيضاً ضرورياً للحفاظ على نهج مغاير، راديكاليٍّ في محيط محافظ، ساهم في بنائه وتعزيز قدراته الضاربة المعسكر الاشتراكي وفي مقدمته الاتحاد السوفييتي. وتصلب عود ذلك الجيش في حروب ومواجهات على نقاط التماس الحدودية بل وكان قادراً على خوض مثلها خارج حياضه الوطني وقد خاضها بالفعل.
وكان البناء الذاتي للمقاتلين معرفياً وتقنياً يترافق مع بناء الشخصية وتجسيد العقيدة العسكرية مما أفرز جيشاً عصرياً منضبطاً بالمقاييس العالمية، فلم تفتْ في عضده بعض المواجهات والانقسامات الداخلية كما حدث في أحداث يونيو 1978م ويناير 1986م، بل كان يعود بعدها إلى ذات الوضعية السابقة مع بعض المثالب المتمثلة في استقطابات مناطقية بعد كل دورة وهو ما كان واجباً التنبه له منذ البداية بخلق توازنات بشرية متساوية في صفوفه لكل المناطق والمحافظات وإبعاده بالمطلق عن الشأن السياسي والحزبي، ولكن ذلك لا يقلل من قدرته إطلاقاً، وقد رأينا وحداته لا تنهار في حرب 1994م إلا بعد مؤامرة حيكت عليه بإحكام بوضع صفوته في جغرافيا غير مواتية وإهمال متعمد لمدة أربعة أعوام، ناهيك عن المؤامرات والتصفيات وشراء الذمم. وحتى الوحدات العسكرية الحاسمة في الحرب الظالمة والتي كان باعها طويلاً في اجتياح الجنوب هي الوحدات العسكرية الجنوبية التي نزحت غداة أحداث 13 يناير 1986م.
في هذه المناخات العسكرية تشرب محمود أحمد سالم الصبيحي عقيدته العسكرية بما هي فكر وانضباط وحركة، تسقط في ثنايا شخصية مجبولة على الاعتداد النفسي والشجاعة الذاتية التي يتحلى بها أبناء الصبيحة بلا استثناء. وربما يستطيع كثير من رفقة السلاح من مجايليه أن ينقل إلينا الصعود المتأني ضمن اشتراطات العلم والمعايير العسكرية للمقاتل الشاب محمود الصبيحي.
وعندما تواترت إلى مسامع الطلاب الدارسين في الخارج أنباء المعارك في حرب احتلال الجنوب صيف 1994م كانت ملاحم هذا القائد الشاب وشجاعته في محور المضاربة ورأس العارة وخرز، مع فارق العدد والعتاد لصالح المعتدين، هي الأبرز بين مجمل المعارك التي خاضها الجنوبيون لصد العدوان.
وكنت شخصياً من الطلاب الذين ظلت صورة القائد الصبيحي لا تبارح ذاكرتهم، ويتوقون لمعرفة الكثير عن هذا البطل الذي حل في دولة الكويت الشقيقة بعد أن وضعت الحرب أوزارها. وعند عودته إلى وطنه والاقتراب أكثر من تلك الشخصية تترسخ كل القناعات الإيجابية السابقة وتنمو قناعات أخرى عن قائد عسكري هو بالمجمل الابن الشرعي لتلك المدرسة العسكرية الراقية التي أسهبنا الحديث عن بعض جوانبها في مطلع هذا المقال.
وكانت حرب تحرير محافظة أبين من الإرهاب المتمثل في أنصار الشريعة تضعنا إزاء عقيدة عسكرية وطنية يمثلها الشهيد سالم علي قطن ومحمود الصبيحي في مقابل هياكل عسكرية متخمة بالولاءات الفردية والقبلية ولا تتورع من التآمر حتى على أفراد وحداتها وإطالة أمد الحرب في سبيل مصالح ضيقة. وفي كل المناصب التي تقلدها الصبيحي بعد تحرير أبين بما في ذلك قيادة المنطقة الرابعة وصولاً إلى وزارة الدفاع كان مثالاً للقائد العسكري الذي يلفت الأنظار ببصيرته القتالية ورؤيته الوطنية للأحداث ومقدرته على الفعل الميداني في الظروف المعقدة.
ولذلك لم نكن فرحين بأن يذهب اللواء محمود أحمد سالم وزيراً للدفاع، وألوية الجيش في صنعاء قد توزعت ولاءاتها في كل اتجاه، إلا الولاء للوطن، فقد كان جيشاً للعائلة وللأفراد أصحاب النفوذ، من علي عبدالله صالح وعلي محسن الأحمر والأبناء والاتباع، ولذلك سقطت هذه الوحدات بيد الحوثيين أو أسقطت بإيعاز من النافذين في مشهد مروع ومهين توج بسقوط صنعاء في سبتمبر 2014م، ثم استكمال ما حدث بالانقلاب العسكري على رئيس الدولة الشرعي والقائد الأعلى للجيش عبدربه منصور هادي.
إن أنصار الله الحوثيين بإسقاطهم الشرعية الدستورية في البلاد يتقمصون- وهم ضحية حروب ست في السنوات الماضية- جلد الجلاد، ويفقدون كل يوم جزءاً من الذين تعاطفوا معهم في فترة الحروب الست، ويقعون في خطل أن تمتد أساليب التعامل مع الآخرين إلى حد الخطف والاحتجاز والحصار، ومن ذلك ما يتعرض له رئيس الدولة ورئيس وزرائه والقائد البطل محمود أحمد سالم الصبيحي، الذي لم تعد شعبيته محصورة في قبيلته أو محافظته أو الجنوب ككل، ولكنه شخصية عسكرية ووطنية ترتفع صورها في مسيرات المناهضين للانقلاب البائس في تعز وسواها من محافظات الشمال.
أما هو، فنحن على يقين أنه يحاصر سجانيه من داخل عرينه المحاصر، وقد وجه أوامره من حيث هو إلى بعض الشباب المندفع بعدم قطع الطريق الرابط بين كرش وتعز حتى لا يقع الظلم على أبرياء ليس لهم دخل في ما يحدث.
تحية لهذا القائد العسكري الوطني الحر، وحقاً الوطن بحاجة إليه.. حاجة ماسة.
* الأيام