تقدم لنا هذه المعلومات التاريخية في فترة الحكم البريطاني لعدن رؤية لمراحل التطور الذي جرى في هذه المدينة، والذي شكل عملية نقل لمكانة عدن ودخولها إلى العصر الحديث عبر تقدم وسائل الحياة فيها.
في عام 1839م كان عدد سكان عدن 1289 فردا، وبداية دخول العملة الهندية (الروبية) في المعاملات النقدية في عدن، كما تم افتتاح إدارة البريد في كريتر، وعندما جاء عام 1840م عملت الإدارة البريطانية على تعزيز التحصينات السابقة على سلسلة الجبال المحيطة بعدن وكذلك الحصون والأسوار، وقد أسست في نفس العام أول فرقة شرطة للبوليس المدني وكانت مكونة من 12 عربيا و8 من الهنود الذين جاءوا من الهند.
عام 1842 وصل عدد السكان في عدن 16454 نسمة كان منهم 3484 عسكريا يتبعون القوات البريطانية، وكذلك ظهر أول مبنى في التواهي وهو مقر وكالة الجزيرة للبواخر الشرقية وقد عملت على بناء مستودعات الفحم في حجيف، وجاء إلى عدن رجل الأعمال لوك توماس وعمل وكيلأ لشركة انداوو الملاحية.
عام1844م قامت القوات البريطانية بناء حصن رأس مربط حتى تكون للتواهي حماية من أي هجوم عبر البحر، وما بين 1845 م - 1846 م ظهرت أول المباني الكبيرة في عدن وهي محلات لبيع البن، وهي تابعة لسكان عدن من العرب، وبعد عام 1845م زاد عدد التجار الهنود بشكل واسع في عدن بسبب توسع حركة التجارة عبر البحر وامتلكوا المخازن كبيرة، وتحولت مراكز النقل الاقتصادي على أيديهم من البر إلى الملاحة البحرية نحو الساحل المقابل وبالذات مع بر الصومال في تجارة المواشي في بربرة.
عام 1847م أخذت عملية التحول التدريجي من ميناء عدن القديم في صيرة إلى مينائي التواهي والمعلا أما لوك توماس فقد بدأ عمله المصرفي، حيث كان يقوم باستلام وتوصيل الحوالات والودائع المالية التابعة لجنود الحامية البريطانية في عدن مقابل بعض العمولات، كما أقامت القوات البريطانية مركز جمارك فرعي عند مدخل باب عدن للبضائع القادمة من المعلا التي تحملها السفن المحلية لغرض العشور عليها.
عام 1848م دخلت في مجال الخدمات البحرية خدمة إرشاد السفن في ميناء عدن، كما بلغ دخل عدن من الرسوم المفروضة على البضائع القادمة من بربرة حوالي 80% من إجمالي دخل عدن.
أما عن دخول أول مشاريع لتطوير خدمات المياه في عدن فهي تعود إلى 1858م، وهو عبارة عن جهازين وقد ركبا في البرزخ، وبعد ذلك تم إرسال 4 أجهزة، اثنان منهم تم تركيبهما في التواهي واثنان في عدن وكان ذلك عام 1867م.
قبل دخول بريطانيا إلى عدن كان سكانها يعتمدون على مياه الآبار والصهاريج الواقعة في هذه المدينة، وهي في وادي العيدروس ووادي الخساف، وكانت تملأ بمياه الأمطار، وكذلك صهاريج الطويلة التي ظلت لقرون عديدة من أهم مصادر المياه لعدن، وقد ذكر الكابتن هينس في أحد تقارير عام 1839 م بأن عدد الآبار في عدن حوالي 300 بئر، وفي عام 1842م جاءت لجنة من الهند لتقييم أوضاع المياه في عدن، وقد قدرت عدد الآبار الصالحة للشرب حتى عام 1843 م بـ 107بئر.
وفي عام 1849م جرى تعداد سكاني لعدن تحت إشراف الكابتن هينس، وكان عددهم 19024 فرداً، وفي عام 1850م افتتحت في عدن مدرسة القديس سانت جوزيف للبنات المعروفة عند أهل عدن باسم (مدرسة البادري)، كما تم افتتاح المدرسة الانجلو جزراتية في منطقة الخليج الأمامي، وافتتح أول بنك لرجل الأعمال لوك توماس، وأول قنصلية أمريكية في الجزيرة العربية والقرن الإفريقي وكان بريد التواهي قد أسس في عام 1845م.
وفي عام 1856م تم بناء معبد لليهود في عدن وعرف باسم (ميجان أفرهام)، وأول مطبعة لليهود في عدن أسست عام 1891م وطبعت مجموعة من ابتهالات الصلاة والشرائع الدينية، وفي شهر ديسمبر من عام 1888م زار عدن عالم الحفريات (جون ستدي ليف) البريطاني عدن من أجل وضع دراسة تاريخية عن الوجود اليهودي في عدن، وكان الرحالة اليهودي (باكوف سايبر) قد زار عدن في عام 1859م لفحص شواهد القبور في مقبرة اليهود الواقعة خارج باب عدن.
وعن أهمية عدن عند اليهود يقول الكاتب اليهودي روبن أهاروني : "إن المكانة الممتازة لعدن أثناء القرون الوسطى كانت بسبب تمتعها بمركز تجاري مشهود، وعلى مدى واسع من النشاطات التجارية استمرت حتى القرن السادس عشر عملت عدن كعين لليمن، وهي القناة التي ربطت اليمن بعلاقات تجارية، وحضارية مع العالم الخارجي وبالمثل، كان التجمع اليهودي في عدن هو المركبة المهمة التي حملت يهود اليمن إلى النفوذ الخارجي الديني، الروحي والاجتماعي والحضاري ).
بتاريخ 2 أكتوبر 1940م نشرت صحيفة فتاة الجزيرة في العدد 43 هذا الموضوع : (على الرغم من الحرب فإن مركز سعادة الطفل والولادة الذي أنشئ من مالية عيد عدن المئوي ما زال مفتوحا على مصراعيه وأقسام سعادة الطفل والنصيحة قائمة بعملها على قدم وساق لتقال للأمهات قبل ميلاد الطفل، وفي بحر أشهر قليلة سينتهي إنشاء الجناح الخاص بالولادة وسيكون العمل بعدئذً في تحسن مطرد أشد مما هو عليه الآن.
في صباح كل ثلاثاء ابتداء من الساعة التاسعة يفحص الأطفال، وتلقى لأمهاتهم النصائح فيما يتعلق بالعناية بهم وتغذيتهم، ولا شك أن تغذية الطفل من الخطورة بمكان، ولذلك فإن الإرشادات تقدم بكل بيان ووضوح بخصوص اختيار الغذاء وإعداده له، وإن الأمهات اللائي ينتهجن سبيل هذه التعاليم ويقمن بها كما يرام لا يضمن سلامة أطفالهم وعافيتهم فحسب ولكنهن يضعن أساسا قويا لتشييد مستقبل صحة أطفالهم. كما أن أولئك اللائي يتوقعن الولادة ينلن فائدة أخرى فإن كل جمعة ابتداء من التاسعة صباحا خصيصة لهذا الخدمة. وليس بدعا أن تستفيد الأمهات المنتظرات الولادة فوائد كثيرة من النصيحة والإرشاد الذي يجدنه وبذلك تتناقص وتخف المشاكل والمصاعب التي تعترض ولادة الطفل.
والأمر الثالث أن الأطفال الذين ساءت تغذيتهم يسمح لهم بالبقاء في المركز فيعتنى بهم ثم يرسلون إلى منازلهم وأمهاتهم صحيحي الأبدان، وتنصح أمهاتهم في أمر العناية بهم في المستقبل.
هذا وإن البناية الجميلة والأشجار التي تحيط بها قد أصبحت أشهر من نار على علم في عدن. إلا أننا نشير إلى النساء في عدن أن يزرن داخل البناء وليس من الضروري أن يذهبن إليه كمرضى، لا، ولكن ليتفقدن فيه مبلغ الاستعدادات والأثاث ويمتعن أنظارهن بجمال البناء واخضرار الشجر. ولا شك أن الأخت المسؤولة عنه ستستقبلهن بكل ترحيب وبذل، وستظهرهن على زواياها كلها).
في 15 يوليو 1940م صدر القانون رقم 22 وهو يخول مراقب التموينات المدنية أن يضبط الأسعار ويقررها بين حين وآخر إذا رآها مائلة نحو الصعود والارتفاع، كما صدر قانون رقم 21 يمنع تصدير العاديات الأثرية من عدن، ويخول مدير هذه العاديات أن يشتري ما يريد منها من أي شخص يطلب أذناً في تصديرها، إذ لا يجوز خروجها من عدن إلا بجواز من المدير.
تقرر من 1 مايو 1941م في عدن توحيد وظيفتي المدير المدني والسكرتير السياسي المستر أنجرامس، وبذلك أصبحت إدارة عدن وإدارة المحميات واحدة. غير أن عدن لم تتحمل ما يلزم المحميات من مصاريف وقد دفعت من خزينة الحكومة البريطانية في لندن.
في 19 مايو 1940م اجتمع حاكم عدن السر (برنارد رايلي) مع الأستاذ محمد علي لقمان، وقد تحدث إليه عن مكانة عدن وقد ذكر حاكم عدن البريطاني أن (عدن كانت في ما مضى مركزاً تجارياً عظيماً، وأنها اليوم لا تقل أهمية عما كانت عليه سابقاً وأنها كانت سوقاً من أسواق الأدب، وأنه يود أن يرى عدن مرة أخرى وقد استعادت ذاك المقام الأدبي واستطاعت أن تنجب شباباً مثقفاً.
إن الحكومة في عدن قد أسست كلية لأبناء أمراء محمية عدن، وهدفها إنجاب بعض الطلاب الذين يستطيعون أن يكونوا نواة لنشر المعارف في هذه الأقطار.
ولكنه يفكر الآن إذا ما تمكن من التحصيل على دراهم كافية في بناء كلية يتخرج منها أبناء عدن وأبناء محمية عدن وحتى أبناء العرب الذين يرغبون في الالتحاق بهذه الكلية ).
في 3 مارس 1940م نشر والي عدن وكان هو رئيس جمعية الإسعاف لسانت جون خطاباً يرجو فيه أهالي عدن بجمع القصاصات من التنك وغير ذلك من الأدوات المعدنية و تقديمها لحضرة المستر أ.بات المحامي بعدن لترسل إلى لندن لبيعها وتقديم الثمن كمساعدة لجمعية (الصليب الأحمر) وجمعية (سانت جون) لتوفير الراحة للمرضى والجرحى وأسرى الحرب.
في تلك الفترة عام 1940م وهي مرحلة الحرب العالمية الثانية، ونظراً لغلا سعر الماء والكهرباء طلب أهالي عدن من مجلس البلدية أن يفكر في وسائل عاجلة لتخفيض هذه الأسعار.
وفي رسالة نشرت عام 1940م حول قرية الحسوة جاء فيها : "بما أن الطريق الجديدة بين الشيخ عثمان والحسوة سوف تخترق هذه القرية فإن المسؤولين من الضباط طلبوا من كثير من الأهالي ويقدر عددهم 25 شخصاً أن يخلوا البيوت والمساكن التي يعيشون فيها ليتسنى لهم هدمها ومد الطريق.
وقد قدم أهالي الحسوة طلباً إلى سعادة الوالي، راجين أن يأمر لهم بتعويض لبناء مساكن جديدة، ولا ريب أن السر برنارد رايلي الوالي الكريم سيعين هؤلاء القوم الفقراء، وهذه الطريق ستجعل للحسوة أهمية وقد تجلب لأهلها رزقاً.
وبهذه المناسبة يشكو أهالي الحسوة من عدم وجود الماء للشرب، وكانت البلدية قد قامت بحفر بئر لهم ولم يسفر العمل عن نتيجة، وسعى خان بهادر محمد عبد القادر مكاوي لجلب الماء إلى الحسوة ولم يتمكن من ذلك فعسى أن تفكر البلدية الآن في حفر بئر ثاني.
تلك هي بعض الملامح من تاريخ عدن في عهد الحكم البريطاني، ولكن مازالت الكثير من تلك القصاصات متناثرة على صفحات الصحف والمجلات الصادرة في ذلك العصر ولو جمعت لقدمت لنا صوراً متعددة عن عدن وأهلها، وفي كل هذا تاريخ يظل عالقاً في ذاكرة الأزمنة.
* الايام