مرّ الجنوب العربي خلال سنوات طويلة بمرحلة قاسية من الاستنزاف، عانى فيها المواطن ما لا يُحتمل، وتراكمت الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية حتى أصبحت إدارة الأزمة هي العنوان العريض لكل ما يجري. لم يكن الهدف آنذاك إيجاد حلول جذرية، بقدر ما كان محاولة إبقاء الوضع تحت السيطرة، ومنع الانفجار، وتأجيل الاستحقاقات الكبرى.
إلا أن المتابع للمشهد الجنوبي اليوم يلحظ بوضوح أن هناك متغيرات نوعية تتوالى، لا يمكن التعامل معها كأحداث منفصلة أو ردود أفعال آنية، بل كمسار متدرّج يحمل دلالات سياسية واجتماعية عميقة، توحي بأن الجنوب بدأ يتحرك من مربع إدارة الأزمة إلى مربع تهيئة شروط الحل.
لقد كان من أبرز هذه المتغيرات ما شهدته محافظتا حضرموت والمهرة من تحركات وعمليات وُصفت بأنها تطهير وبسط نفوذ، وهو ما يعكس انتقال الفعل الجنوبي من نطاق محدود إلى عمق جغرافي واسع، بما يحمله ذلك من رسائل واضحة مفادها أن الجنوب وحدة واحدة، وأن قضاياه لم تعد محصورة في مركز أو محافظة بعينها.
كما مثّلت الاعتصامات والمخيمات الجنوبية حالة متقدمة من الوعي الشعبي المنظم، حيث خرج المواطن الجنوبي من حالة الصمت والانتظار إلى حالة التعبير السلمي المنظم عن مطالبه، مؤكداً أن أي مسار سياسي لا يستند إلى الإرادة الشعبية سيظل ناقص الشرعية ومهدد الفشل.
ويأتي تشكيل لجنة الإفتاء الجنوبية كأحد أخطر وأهم التحولات الرمزية، إذ يعكس توجهاً نحو بناء مرجعية دينية تعبّر عن واقع الجنوب وتراعي خصوصيته، بعيداً عن التوظيف السياسي أو التبعية التي طالما استُخدمت كأدوات لإدامة الأزمات لا حلها.
أما إعلان عدد من الوزارات والجهات انضمامها للقرارات الجنوبية، فيُعد تطوراً إدارياً وقانونياً لافتاً، يؤشر إلى بداية إعادة تموضع مؤسسي، وسحب تدريجي للشرعية من مركز فقد قدرته على إدارة شؤون البلاد، لصالح واقع محلي يسعى لتنظيم نفسه بنفسه.
كل هذه المتغيرات تطرح سؤالاً مشروعاً: هل نحن أمام حل فعلي للأزمة، أم مجرد انتقال في شكل إدارتها؟
والإجابة الدقيقة هي أننا لسنا أمام الحل النهائي بعد، ولكننا بلا شك أمام مرحلة جديدة، يتم فيها بناء أدوات الحل، وتهيئة الأرضية السياسية والشعبية والمؤسسية له.
إن نجاح هذا التحول يظل مرهوناً بعوامل عدة، في مقدمتها وحدة الصف الجنوبي، وتغليب المصلحة العامة على الحسابات الضيقة، وعدم الانجرار إلى صراعات داخلية تستنزف الجهد وتُربك المسار. فالتجارب تثبت أن القضايا الكبرى لا تُحسم بالعجلة ولا بالشعارات، بل بالصبر، وتراكم الفعل المنظم، وبناء المؤسسات.
خلاصة القول، إن الجنوب اليوم لم يعد يكتفي بإدارة أزمته، بل بدأ – بهدوء وحذر – في إعادة ترتيب أوراقه، والبحث الجاد عن مخرج حقيقي يعيد له كرامته وحقه في تقرير مصيره. وبين إدارة الأزمة وحلها مسافة، يبدو أن الجنوب قد بدأ فعلاً في قطع خطواتها الأولى.
.