*- شبوة برس - د. حسين لقور بن عيدان
لم يكن السادس من نوفمبر 1967م يومًا عاديًّا سبق الاستقلال، بل كان لحظة ميلاد مأساة سياسية ما زال الجنوب العربي يعيش تداعياتها حتى اليوم.
في ذلك اليوم أعلنت قيادة القوات المسلحة تأييدها للجبهة القومية كممثلٍ وحيدٍ للشعب، فأُغلقت أبواب التعدد الوطني، وبدأت رحلة الإقصاء الطويلة باسم الثورة. لم يُنتظر حتى يوم الاستقلال، إذ بدأ المشهد بإبعاد عشرات الضباط من الجيش لمجرد اعتراضهم على موقف القيادة.
والحقيقة التي تم طمسها هي أن النضال الجنوبي ضد الاستعمار البريطاني في عدن، لم يكن حكرًا على الجبهتين المسلحتين (القومية والتحرير). فقد أسست له وشارك فيه طيف واسع من القوى الوطنية والأحزاب والشخصيات التاريخية التي سبقت ظهور الجبهتين في الدعوة إلى الاستقلال وبناء الدولة، مثل حزب الرابطة والجبهة الوطنية واتحاد الشعب الديمقراطي وعددٍ من السلاطين.
لكن مع تصاعد الصراع في ستينيات القرن الماضي، تحوّل المشهد من تنوّع وطني إلى تناحرٍ مسلح بين تنظيمين، أحدهما مدعوم من القاهرة والآخر من الجيش الذي كانت ترعاه بريطانيا. ومع اقتراب الانسحاب البريطاني، حُسم الصراع بقوة السلاح لا بالتوافق الوطني، فكانت الدولة الوليدة على أنقاض شراكةٍ أُجهضت قبل أن ترى النور.
دخل الجنوب مرحلة بناء الدولة بروحٍ قومية، ثم انقلاب يونيو 1969 وأطاح بالرئيس قحطان الشعبي، وأدخل البلاد في أول تجربة ماركسية (متمركسة) في المنطقة. ومنذ ذلك اليوم أصبح الصراع داخل التنظيم (الحزب الاشتراكي لاحقًا) الحاكم قانونًا غير مكتوب: من إعدام سالم ربيع علي إلى مأساة يناير 1986 التي التهمت آلاف الجنوبيين، في مشهدٍ مأساوي لم يُبقِ من الحلم الثوري سوى أطلال دولةٍ مثخنة بالجراح.
وحين اتجه حكام الجنوب إلى مشروع الوحدة عام 1990، كان الجنوب مثقلًا بإرثٍ من التصفيات والانقسامات، فدخل الوحدة ضعيفًا وخرج منها بعد أربع سنواتٍ مدمّرًا إثر غزو اليمن للجنوب عام 1994، الذي أكمل دورة النكبة وكرّس احتلالًا جديدًا تحت راية الوحدة. ومنذ ذلك الحين ظل الجنوب يبحث عن صوته المفقود، بين الحراك السياسي والشعبي السلمي، حتى الغزو الحوثوعفاشي الثاني عام 2015 الذي تصدت له المقاومة الجنوبية ولاحقًا المجلس الانتقالي. لكن خطر تكرار الصوت المفقود لا يزال قائمًا كلما عاد خطاب الممثل الوحيد، وارتفعت نغمة الإقصاء باسم المشروع الوطني الجنوبي.
ما لم يُدركه كثيرون أن نكبة الجنوب لم تبدأ عام 1994، بل في نوفمبر 1967، حين انتصرت فوهة البندقية على فكرة الدولة المدنية التعددية، وسِيق الجنوب إلى اليمننة منذ ليلة الاستقلال، لقد أكلت الثورة أبناءها قبل أن تبني وطنهم، ففقد الجنوب روحه الجامعة، واستُبدلت التعددية بشعارات الحزب الواحد، حتى صار الاستبداد يُمارس بلبوس التحرير.
اليوم، لا يحتاج الجنوب إلى ثورة جديدة، بل إلى وعيٍ جديد، وعيٍ يُدرك أن التحرير لا يكتمل إلا حين يتسع الوطن لكل أبنائه، وأن الصوت الواحد، مهما علا، لا يبني أمةً بل يهدمها.. "الثورة التي تأكل أبناءها لا تبني وطنًا، بل تقبره".