كانت مناطق في عدن تتعرض لقصفٍ بقذائف المدفعية الموالية لقوات للرئيس علي عبد الله صالح. وقد سقط كثيرٌ منها على منازل المواطنين، لتحصد أرواح الأبرياء من رجال ونساء وأطفال .
ذاتَ عصرٍ ، خرجتُ من بيتي في الشيخ عثمان أقود سيارتي صوب مبنى التلفزيون في التواهي ، للإشراف على نشرة الأخبار الرئيسية التي كانت تُبث كل يوم في الساعة الثامنة مساءً . وصلتُ إلى جولة كالتكس ، و إذا بي أسمع دوي انفجار القذائف من اتجاه الشيخ عثمان ، وحي عبد العزيز ، وحي الدرين .. وكان الهدف - كما يبدو - بطاريات المدفعية ذاتية الحركة التابعة للقوات الموالية لنائب الرئيس علي سالم البيض .
كما عرفتُ عندما عدتُ مساءً إلى البيت أن قذيفة سقطت بجانب محطة الهاشمي للتاكسي ، فقُتل وأُصيب عددٌ من الأشخاص ، من بينهم التربوي محمد عمر محجوب، الذي قُتل هو وابنته يتيمة الأم ، التي لم تتجاوز عامها الثاني ، خرج ليشتري لها شيئاً تأكله، لكن الشظايا القاتلة كانت أسرع .. مات الأستاذ محجوب وابنته، وهما يحتضنان بعضهما، في مشهد أبكى جميع الناس الذين هرعوا لإسعافهما والشجن .
من جولة كالتكس ، واصلتُ الانطلاق عبر الطريق البحري . تجاوزتُ الجسر ، وقبل الانعطاف عند سور مطار عدن الدولي، توقف محرك سيارتي دون أي مقدمات، أو بالأصح انطفأ تماماً. نزلتُ وفتحت غطاء السيارة ، لعلّي أجد سبب العطل ، لكن لم استطع !
كانت اللحظة مرعبة جداً ؛ والقذائف تتساقط في البحر بالقرب من مدرج المطار . الطريق كان شبه خالٍ من السيارات ، باستثناء سيارات الإسعاف المسرعة التي تنقل الجرحى والمصابين جراء القصف . ابتعدتُ عن سيارتي خوفًا من أن تصدمني إحدى سيارات الإسعاف المسرعة ، وبدأت ألوّح بيديّ لأي سيارة قد تنقذني من هذا الموقف العصيب الذي لا أُحسد عليه، لكن دون جدوى .
بعد حوالي ربع ساعة من التوتر والقلق ، لاحَت من بعيد سيارة بيجو. أشرتُ لها بكلتا يديّ ، فتوقفت ، وكدتُ أطير من الفرح . كان بداخلها شابّان فقط. انحنيتُ أطلب منهما بلطف مساعدتي في سحب سيارتي ، لكن أحدهما قال لي : " بسرعة ، بسرعة ، اركب ! اترك سيارتك الان وارجع لها لاحقاً ، الموقف لا يحتمل ".
ركبتُ معهما إلى جولة إلى فندق عدن .. نزلت هناك وتوجهت سيراً قاصداً شرطة مرور عدن . وقبل وصولي إلى البوابة الرئيسية وجدت مجموعة من أفراد المرور يجلسون خلف متاريس مكونة من شِوَالَات مملوءة بالرمل ، وُضِعت فوق بعضها . كانوا لطفاء ومتعاونين ، قدموا لي الماء لأروي عطشي ، وكأساً من الشاي الأحمر "حتى أعدّل مزاجي"، كما قالوا مبتسمين . وفعلاً ، زال التوتر والقلق عني ، وشعرت بالأمان بينهم .
بادر أحد الضباط بمساعدتي، وتحركنا بسيارته إلى الطريق البحري حيث كانت تقف سيارتي . كان المكان هادئًا بعد توقف القصف. نزلنا، وفتحنا غطاء المحرك ، ثم حاولنا تشغيل السيارة مرة ، مرتين، ثلاثًا... دون فائدة . تفقد الضابط التوصيلات والوقود ... الخ ، واتضح أن كل شيء سليم . قرر الضابط سحب سيارتي إلى موقعهم . فتح صندوق سيارته ، وكان يحتوي على عدة إصلاح متكاملة ، مما أوحى لي بأنه ميكانيكي سيارات ماهر . أخرج حبلًا قماشياً غليظاً في طرفيه خطّافان، شبك أحدهما بمقدمة سيارتي والآخر بمؤخرة سيارته "الكرسيدا" القوية ، وسحبني إلى موقع المرور حيث كانوا يجلسون . هناك واصلوا فحص السيارة، واكتشفوا السبب : تمزق حزام او بطّة التيمت كما يسمى بالعامية و أصل التسمية هو (Timing Belt) ، وهو حزام المزامنة داخل محرك السيارة . شكرتهم بحرارة ، وأخبرتهم أنني سأقوم بسحب السيارة إلى حوش مبنى التلفزيون ، حيث الأمان أكثر .
تعذبت في المواصلات حتى وصلت إلى مبنى التلفزيون قبيل المغرب .. دخلتُ المبنى أبحث عن (...) ، المسؤول عن السيارات ومهام أخرى.
كان لدى التلفزيون ثلاث سيارات لاند كروزر : الأولى سوداء تتبع قسم التصوير المحمول ، والثانية بيضاء تتبع رئيس قطاع التلفزيون ، والثالثة غبراء بحوزة الشخص المقصود، تستخدم بأمره مع سائق خاص .
وجدته داخل استوديو 2 يتحدث مع بعض الزملاء عن الموقف العسكري. ألقيتُ التحية ، فردّ عليّ بالمثل. ثم انتظرتُ قليلاً حتى يفرغ من حديثه، وبعدها حكيتُ له الموقف وطلبتُ منه السيارة حتى أتمكن من سحب سيارتي إلى هنا ، قال : " السيارة راحت تودي المذيعة إلى خور مكسر، لما ترجع بخلي السائق أحمد الحبَشيّ يجي معك".
قلت في نفسي : خلاص ، هانت ، كلها أقل من ساعة وتتم العملية . كنت أذرع المسافة بين الاستوديو ومدخل المبنى جيئةً وذهاباً، منتظراً السيارة التي وصلت متأخرة. ولهذا قال لي المسؤول : " الآن الوقت متأخر، إيش رأيك نخليها لبكرة ؟ قدك بتجيب القطعة المطلوبة معك ، وبنسحب السيارة إلى هنا، وبخلي المهندس عبدالرحمن يركّبها لك ". وافقتُ على الفكرة، لأنها عملية ، دون أدنى شكّ في نواياه.
غادرتُ مبنى التلفزيون، وبعد انتظار طويل وتخبّط ، وجدتُ مواصلات إلى الشيخ عثمان . نمتُ في تلك الليلة وذهني مشغول بالسيارة ، وماذا سأفعل في اليوم التالي .
ثاني يوم، صحوتُ مبكراً ، لكنني خرجت من البيت في الساعة التاسعة صباحاً ، وهو موعد فتح محلات بيع قطع غيار السيارات .. توجهتُ إلى مستودع النبهاني لبيع قطع غيار السيارات، الواقع في قسم "دي" بالشيخ، بالقرب من ثانوية بلقيس. كان يبيع قطع غيار أصلية (وكالة) لسيارات تويوتا اليابانية ، اشتريت القطعة المطلوبة مع لوازمها، ثم ركبت التاكسي إلى التواهي . وفي الطريق، انتابني قلق من أن تكون سيارتي قد سُرقت، أو "شُلِحت"، وأنني سأجد هيكلها فقط . "حتى دمية الكلب القُطنيّة الصغيرة، الجميلة بلونها البرتقالي والأبيض، والمعلّقة بالمرآة الداخلية، التي كان أولادي يسمّونها 'بوتشي'، لن أجدها." وكلما اقترب بنا التاكسي، زاد القلق والتوتر، حتى إنني لم أعد أسمع حديث ركاب التاكسي ونقاشهم عن الحرب. وصلنا جولة فندق عدن (ريجل) الحمد لله ، ها هي سيارتي البيضاء تلمع من بعيد في مكانها! تنفستُ الصعداء، وبدأت أستمع إلى أحاديث الركاب وأشاركهم النقاش . في طريقنا، مررنا بنقاط تفتيش روتينية ، كانوا يأخذون الشباب للتعبئة العامة .. أما نحن ، العاملين المداومين في التلفزيون ، فكانت لدينا تصاريح "عدم اعتراض" من عمليات وزارة الدفاع . وصلت التواهي وتوجهتُ إلى مبنى التلفزيون ، وكان المتواجدون قلّة من المناوبين . دخلتُ استديو (2) ، المكان الذي كنا نعدّه أكثر الأماكن أمانًا.
مضت نحو ساعتين وأنا أنتظر مجيء السيارة ، لكنها لم تأتِ. شعرتُ بالجوع ، فخرجت أبحث عن شيء آكله ، لكن الزملاء أخبروني أن المطاعم مغلقة ، وأنهم يتناولون الغداء مع جنود حراسة مبنى الإذاعة والتلفزيون. تغديتُ معهم، وتذكّرتُ أيام التجنيد في "العند" حين كنا ستة أشخاص نتغدى في "تُوكة" واحدة (صحفة كبيرة).
عدتُ إلى الاستديو لأنعم بالبرودة والراحة بعد الغداء تحت الشجرة ، خصوصًا أن الجو كان حارًا جدًا في الخارج .. ولكي أستفيد من الوقت ، قمت بترتيب الأخبار التي كانت تصلنا عبر الفاكس ، وأعدتُ صياغة بعضها، حتى يتمكن الزملاء مناوبي الأخبار من الاستفادة منها.
انهمكتُ في ترتيب وتجهيز الاخبار ، ومرّ الوقت سريعاً ، وبعد الساعة الرابعة عصراً وصلت السيارة الغبراء ، وكان على متنها المسؤول الذي كنت بانتظاره. قلتُ في نفسي : "جاء الفرج"، وحمدتُ الله أن موضوعي سيُحسم أخيراً بعد كل هذا الصبر .
نزل من السيارة واتجه نحونا، حيث كنتُ واقفاً مع بعض الزملاء عند مدخل الاستديوهات . وقف يتحدث عن الموقف العسكري وأحداث القصف في اليوم السابق . كنت أحاول أن أذكّره بموضوع ، لكنه تجاهلني. كررت المحاولة مرة أخرى، لكن ردة فعله كانت صادمة وغير متوقعة ، انفجر في وجهي وهو يصرخ بصوتٍ عالٍ : " يا أخي! ما عندي سيارة! من فين أجيب لك؟ السيارات كلها..." لم أسمع بقية كلامه. حدّقتُ في وجهه، وقد انطفأت فيه كل مشاعر الإنسانية والرحمة والإخاء .. تملكني شعورٌ بالقهر والذل ، واستغرابٌ لم يسبق لقلبي أن عرفه من قبل . كادت العَبَرات تخنق أنفاسي ، والكلماتُ عالقةً في حلقي، كأنها تأبى الخروج .. كنتُ مشدوهاً، أتابع شفتيه تتحركان ، لكن صوته لا أسمعه .. غمرني صمت القهر ، و صعقتني دهشةُ الموقف . دون شعور، استدرتُ وخرجتُ بخطواتٍ سريعة إلى الشارع . وصلتُ إلى موقف التاكسي، وكانت تلك المسافة كافية لأن تمنحني شعوراً بالقوة والتحدي ، أوقفت سيارة أخذتني مشواراً إلى حيث تقبع سيارتي .. وصلت إلى هناك وقلت : " السلام عليكم "، فردّ جماعة المرور بالمثل .. بادرتهم بالسؤال : حد فيكم مهندس او يعرف مهندس ممكن يصلّح سيارتي؟ أشاروا إلى أحدهم وقالوا : "هذا مهندس الصيانة عندنا .. سألني : جبت البَطّة مع الباكن والشَلَك؟ ناولته إياها داخل الكيس البلاستيكي .. تفحّصهم وقالة: تمام، بكرة قبل الظهر تكون السيارة جاهزة، قلت إن شاء الله و غادرت المكان إلى بيتي في الشيخ عثمان .
في اليوم التالي كانت سيارتي جاهزة ، أخذتها ومشيت بها أنا منشرح الصدر، جذلان من الفرح . انتهى الأمر بالنسبة لي ، وأصبح ماضياً قريباً لا يؤثر في نفسي وفي علاقتي مع من قهرني أمام الزملاء .
بعد كم يوم ، كنت أؤدّي عملي في إعداد نشرة الأخبار ، وكان يساعدني محرر الأخبار ، الزميل الخلوق سيف العسالي . لكن أحد المتنفذين في التلفزيون أخذه (دون علمي) إلى حديقة التواهي ، برفقة مصورين، وكلفه بإجراء لقاءات مع أشخاص بأسلحتهم أتوا بهم من بيتهم في عدن ، على أساس أنهم مرابطون في جبهة القتال وان الامور طيبة.
عاد الزميل سيف ، ودخل مع ذلك الشخص غرفة المونتاج وأغلق بابها من الداخل . بحثت عنه في كل مكان ولم اجده .. كنت أواجه ضغطاً كبيراً في إعداد النشرة ، بسبب كثرة الأخبار وضيق الوقت وأنا لوحدي . تأخرت النشرة عن موعد بثها خمس دقائق، لأنني سلمتها للمذيع قبل البث بخمس دقائق، أصر هو على مراجعتها ! استدعاني رئيس قناة تلفزيون عدن، الراحل فضل مطلق ، الذي كان قد وصل للتو ، وسألني : ليش تأخرت النشرة؟ أوضحت له أنني كنت لوحدي ، وأن زميلي كذا وكذا وكذا... فقاطعني ، ثم التفت إلى الشخص الذي كلّف زميلي بإجراء اللقاءات وسأله: هل هذا صحيح ؟ فردّ المتنفذ : نحن اضطرينا عمل ذلك بهدف إلى رفع معنويات الناس . قال رئيس القناة : خلاص يا أحمد ، انت موقفك سليم ، رغم أن ما أخبروني به كان عكس ذلك .. بعد انتهاء الحديث عن النشرة ، انصرف الحاضرون في استوديو 2 إلى الأحاديث الجانبية .. كان الشخص الذي رفض إعطائي السيارة موجوداً و جالساً بالقرب مني ، كان هادئًا منكسراً ، ثم قال لي بحسرة : أحمد .. سيارتي تكسّرت . رددت عليه بدون شماتة وقلت : تفدي راسك .. الحديد بداله حديد .
كما عرفت منه أنها سيارته الشخصية التي كانت أمام بيته ، لكنه رأى أن المكان مكشوف أمام القذائف ، فنقلها إلى خلف بيت عمه الأكثر أماناً.. لكن، ولسوء حظه ، سقطت قذيفة مدفعية على جدار "بلوك" كان مشروع غرفة فوق سطح البيت ، فأسقطت احجار البلوك كله على السيارة فحطم سقفها وأبوابها والغطاء الأمامي .
موضوع السيارة لسه ما انتهى، باقي حكاية أخيرة بالضرورة أرويها لكمة ، وحدثت في الأسبوع التالي .
ذات صباح .. كنت داخلاً إلى فناء (الحوش) مبنى التلفزيون، أوقفني أحد الزملاء وقال إنه لم يجد وسيلة مواصلات، وطلب مني أن أوصله بسيارتي إلى كريتر لشراء قطع غيار فرامل سيارته المتوقفة بجانب الحوش . ومن دون أي تردد أو نقاش ، قلت له : تفضل، بكل سرور. الان أوديك وأرجعك . وأثناء الطريق سألني باستغراب: "ليش وافقت بسرعة؟ قبلك أكثر من زميل اعتذر لي . فأجبته : قبل أسبوع كنت في نفس حالتك، ومحد ساعدني، وشعرت وقتها بالقهر والخذلان . واليوم انعكست الأدوار، وصارت فرصة المساعدة بيدي. فكيف أقول لك لا وأنا قادر على مساعدتك ؟ ثم شرحت له اللي حصل لي بالتفصيل الممل .. ورجعنا بسلام الله وحفظه .
هذه الحكاية ليست مجرد قصة عن سيارة أو حرب أو أشخاص ومواقف ومشاعر فقط ، بل الممكن فيها هي أهميتها في الدروس والعِبر التي يمكن استخلاصها منها ، والتي تحثّنا على المحبة ، والتآزر، والتعاون فيما بيننا قدر المستطاع، خاصة في أوقات الحروب والكوارث والمحن والقهر ، حتى نخفف من وطأتها على بعضنا البعض .
*- أحمد محمود السلامي