غريب أن النظام السوري ـ الذي لا ننفي موبقاته وكذلك غباءه ـ هو الوحيد الذي يفترض أن يتغير , كونه النظام الوحيد العائلي , التوتاليتاري , الذي تقفل فيه , وتقطع فيه , الرؤوس , والذي تقفل فيه الأفواه . محمد الماغوط كان يخشى أن "تصبح أفواهنا أفواه المواشي ..." !
كل الأنظمة العربية الأخرى أنظمة ديمقراطية , بالانفتاح على الآراء , وبالعدالة الاجتماعية , وبالانتقال بشعوبها من القرون الوسطى الى القرن الحادي والعشرين على متن الطنابر . حقاً ألا يمشي الزمن (هذا الزمن المجنون) بسرعة الطنابر . تذكروا أن البغال المجنحة هي التي تجر الطنابر .
هكذا حين تسقط الديكتاتورية في سوريا , يتنفس أفلاطون الصعداء في قبره , ما دام الحكام الجدد قد خرجوا , للتو , من المدينة الفاضلة , وقد تتلمذوا على يدي أبي نصر الفارابي , لا على يدي أبي بكر البغدادي ولا على يدي أبي مصعب الزرقاوي , دون التوقف عند سؤال محمد أركون عن سبب تأرجحنا بين زمن الآلهة (التكنولوجيا) وزمن القردة (الايديولوجيا) .
اذاً من "النظام المخلوع" الى "النظام الخليع" . من يتصور أن باستطاعة تلك الفصائل , الآتية من الكهوف , أو من الخنادق (وربما من القبور) , أن تستوعب "الحالة السورية " بالتضاريس الجيوسياسية , والثقافية , والاتنية , والطائفية , والقبلية ؟ دخلوا الى حلب . أول ما فعلوه أنهم أحرقوا مقام أبي عبدالله الخصيبي , أحد مؤسسي الطائفة العلوية , ودخلوا الى حماه , وأحرقوا شجرة الميلاد , باعتبارها تقليداً وثنياً , ولا مكان للوثنية في سوريا بعد الآن , ليتهموا "فلول النظام" , وكما جرت العادة , عن ذلك . كل شيء يشي بأن سوريا تتجه الى الفتنة الكبرى , والى الفوضى الكبرى , بالتداعيات الكارثية على العديد من بلدان المحيط .
نتوقف عند كمال اللبواني , المعارض الشهير الذي أمضى سنوات وراء القضبان , وزار اسرائيل على قاعدة الأخوة بين اسحق واسماعيل . هذا الرجل الذي تبنى رؤية الباحث الاسرائيلي بنحاس عنبري الذي يعتبر أن لبنان "دولة سنية" بوجود اللاجئين الفلسطينيين , والنازحين السوريين , وهذا هو الحل الوحيد , في نظره , لدولة قابلة للانفجار , دون أن يدري أن السنّة اللبنانيين هم من أكثر الطوئف اعتزازاً بالتنوع الثقافي والديني في لبنان لأن الاسلام هكذا , وقد وصفه مكسيم رودنسون بالدين الذي "فتح أبواب الكون أمام العقل البشري" .
اللبواني الذي يعترض على الدعوة الى "المؤتمر الوطني" بتلك الطريقة العشوائية , لاحظ أن سوريا باتت من دون جيش , ومن دون شرط . حدود سائبة , ومدن سائبة . سرقات يومية على مد النظر . مشايخ أميين وضعوا في مواقع ادارية وأمنية . لا يردون على تحية "صباح الخير" , ويصرون على "السلام عليكم" , ورحمة الله طبعاً , دون أن يتنبهوا الى أنه غضب الله .
بعض أركان المعارضة الذين كانوا يدعون الى قيام الدولة المدنية يحذرون الآن من "جمهورية تورابورا" . معارضون آخرون يدعون الى تدخل الجيش التركي اذ لا يمكن للفصائل , حتى بالوجود الاستخباراتي التركي , السيطرة على الوضع , وحتى على الامساك بالفصائل كافة . لكن أنقرة أخذت علماً بأن الجيش الاسرائيلي سيدخل فوراً الى دمشق اذا ما قرر الرئيس رجب طيب اردوغان ارسال ولو جندي تركي اليها . هنا المأزق الكبير أمام النظام الجديد الذي مشكلته الكبرى أنه يقوم على منضق الميليشيات لا على منطق المؤسسات .
لا يمكن , في أي حال , عزل "الحالة اللبنانية" عن "الحالة السورية" , وحيث "ألأخوة في الخراب" , كما قال لنا وزير سوري سابق , على أمل ألاّ نصل الى نوع آخر من الخراب . تابعوا خط الوزير وليد جنبلاط الذي يتقن الامساك بالخيوط السرية (والسحرية) . زيارة بروتوكولية لدمشق , خالية من أي محادثات جدية , لتعقب ذلك ـ منطقياً ـ زيارة أنقرة , وحيث الباب العالي . هكذا تبلورت الصورة , لمن لا يعرف من الساسة اللبنانيين , أنقرة محل طهران في معادلة الـ"نعم" والـ"لا" . لا نتصور أن الزعيم الدرزي سأل اردوغان من يريد أن يكون رئيس الجمهورية اللبناني الجديد في المرحلة الجديدة ...
الدنيا تغيرت . على أمل أن يكون هناك تنسيق بين المسؤولين الايرانيين حول مواقفهم من سوريا , ومن تركيا , بعدما لاحظنا بعض التصريحات المتناقضة التي مثلما لا تخدم ايران لا تخدم سوريا ولبنان .
كلنا في ضياع . ندرك أنه الزمن الأميركي . ومن كندا التي يريد دونالد ترامب أن تصبح الولاية الحادية والخمسين , الى بناما التي يريد الاستيلاء على قناتها , ثم الى غرينلاند التي يريد شراءها من الدانمارك , وصولاً الى أوروبا والشرق الأوسط . اقليمياً ... هل هو الزمن العثماني أم الزمن الاسرائيلي ؟
النظام في سوريا تغير . متى تتغيرالخريطة ؟ أجهزة الاستخبارات الأوروبية تحذر من دخول سوريا في فوضى أبوكاليبتية تفضي تلقائياً الى تغيير عاصف في الخرائط . كيف ؟ الاجابة لدى فريق الفيلة في الادارة الأميركية العتيدة .
كلام من واشنطن بأن "الشرق الأوسط الذي تعرفونه لن يكون كذلك" . على مدى قرون دفنا رؤوسنا في الرمال . أين ندفن رؤوسنا الآن ؟ كان يقال لنا "اما الطريق الى دمشق , وهو الطريق الى الهاوية , أو الطريق الى أورشليم , وهو الطريق الى الخلاص" .
ما نخشاه أن يكون الطريق الى دمشق بات هو ذاته طريقنا الى ... أورشليم !!
*- نبيه البرجي – كاتب لبناني
Nabih El Bourji