في عام ٦٧م اتخذ الرئيس جمال عبد الناصر قرار إغلاق مضائق (تيران) في وجه الملاحة البحرية الاسرائيلية ولم يمض وقت طويل حتى بدأت الحرب. وكانت حرب تاريخية، خسرها العرب و دعمت المكانة الاستراتيجية لدولة الإحتلال.
وفي حرب ٧٣م اتخذت مصر قراراً بإغلاق مضيق باب المندب ساندتها بذلك دولة "اليمن الجنوبي". وكانت إيران حينها تصدر ملايين الأطنان من النفط إلى إسرائيل للاستهلاك المحلي واعادة التصدير إلى أوروبا.
انتهت الحرب بانتصار غير مكتمل، لكنه أعاد الاعتبار للجيش المصري. دخلت المنطقة بعد ذلك مرحلة رمادية أسست لواقع مختلف.
حالياً تجري محاولة إغلاق جنوب البحر الأحمر أمام "مصالح إسرائيل" على يد جماعة "أنصار الله" من وسط ركام الحرب اليمنية. ويعتبرون أنفسهم إلى جانب "ساحات اخرى" جبهات مساندة للمقاومة الفلسطينية في غزة.
بين تلك التواريخ فوارق كبيرة ودلالات مختلفة. مصر دولة مواجهة، خاضت حروب مباشرة مع إسرائيل، بغض النظر عن نتائجها. بينما جماعة أنصار الله جزء مما يسمى بـ"محور الممانعة" وقرار عملياتها ليس قراراً داخلياً ولا يمثل الدولة اليمنية. أي أن الإغلاق الذي يبدو تضامناً مع غزة يحمل في طياته أهدافاً متعددة تكرس حضور إيران في ملفات اقليمية تخدم مصالحها الجيوسياسية واقتسام النفوذ.
قبل "طوفان الأقصى" و في سياق تداعيات "عاصفة الحزم" نجح أنصار الله في إغلاق موانئ تصدير النفط دون أدنى مواجهة، ويمتلكون قدرات لإغلاق المنافذ البحرية والجوية في "المناطق المحررة". ناهيك عن فرض معادلة على الأرض جعلت عودة طيران التحالف العربي إلى سماء مناطقهم أمر غير ممكن ولا جدوى منه. وما تزال منشآت البترول العملاقة والمطارات والمراكز السيادية في السعودية تحبس أنفاسها منذ وقت مبكر بعد أن أصبحت هدفاً تقليدياً سهلاً عند الحاجة. أي أن جماعة أنصار الله، كما أعدّتهم إيران، أصبحوا قوة حصار مباشر وغير مباشر يؤدون مهام استراتيجية في كل الاتجاهات وفي شتى الحروب. وهكذا يصبح حصار جنوب البحر الأحمر وخليج عدن فصل آخر من مهام متعددة اختلفت مسبباتها.
"أنصار الله" قوة شديدة التأثير في المحور الإيراني وليس العربي، و تسببوا بكارثة الحرب في اليمن بعد اختطاف الدولة. وما كان لهم أن يصلوا إلى هذا المستوى لولا تواطؤ حكومات اقليمية وغربية وفي مقدمتها الإدارات الامريكية، على خلفية الفرضية بأنه يمكن استخدامهم ضمن ملفات متعددة في إطار النزاعات والتوازنات داخل المنطقة.
الآن حانت فرصة "أنصار الله" لاستخدام قضية قومية كبرى وعادلة لغسل أفعالهم السابقة وأتى وقت يثبتوا فيه صلاحية شعاراتهم التي قتلوا بإسمها إخوانهم في الوطن. فهل يتمكنوا من تحقيق مكاسب كبيرة؟
عملياتهم الهادفة لإغلاق البحر أطلقت موجة من المشاعر المختلطة في الشارع اليمني والعربي، كما أن الغارات الأمريكية البريطانية، بمستواها الحالي، يمكن أن تمنحهم مكانة معنوية في الأوساط الشعبية. وفي حال تمكنوا دون عواقب فإن تلك العمليات تعزز دورهم السياسي والعسكري داخلياً، خاصة وأن خصومهم في التحالف العربي وفي اليمن أصبحوا حتى اللحظة في موقف (المترقب الراجي) الذي لا يقدم ولا يؤخر.
ولهذا يبقى السؤال: كيف يقيّم العرب أدوارهم وعلاقتهم بكل ما يجري إذا توسع الصراع في منطقة البحر الأحمر؟ ذلك سؤال صعب. والحقيقة هناك حزمة من الأسئلة تنبع من حقيقة ضعف التخطيط الاستراتيجي والخلافات البينية التي تعصف بالبيت العربي والخليجي وعجزه عن القيام بأدوار تتعدى الإعلام والخطاب الدبلوماسي التقليدي.
الحروب نزاعات عنيفة لم تتوقف عبر التاريخ وكأنها أقدار للتغيير في الدول والمجتمعات والمصالح والنفوذ. وللبحار ساحات وممرات مميزة وطرق تقرب مصالح الأمم المتباعدة مثلما تقرب جبهاتهم. وقد أصبحت مياه المنطقة العربية أكثر وجهة تقليدية للسفن الحربية. ومع أن للعرب حكايات طويلة منذ بحور النور وبحور الظلمات إلا أنهم الآن أمة (لا بحرية)، ومنافذهم تماما مثل براريهم ومصالحهم يحرسها ويوظفها الآخرون.
احمد عبداللاه