الاقتراب من التجربة السياسية لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية يحتاج عملاً معتمداً على الواقعية والانفتاح ليس على الماضي، على أن يكون بمقدار استحضار الزمن المعاصر الذي يعيد إنتاج شيئاً من نظام الدولة السياسية التي قامت في 30 نوفمبر 1967. ما سبق ميلاد الوطن الجنوبي كان مشهدية من التكوين المجتمعي الذي نشأ في جنوب شبه الجزيرة العربية على امتداد التاريخ البشري.
توجهت السلطنة «القعيطية» في ساحل حضرموت من نهاية القرن التاسع عشر لانتهاج نشر التعليم في الأوساط المجتمعية تأثراً بحياة مؤسس السلطنة عمر بن عوض بن عبد الله القعيطي الحضرمي.
تأثرت الأرياف كما هي المناطق الحضرية التي كانت تحكمها السلطنة «القعيطية» في المُكلا والشحر وغيل باوزير. وحتى القرن العشرين افتتحت السلطنة العبدلية سلسلة من المدارس للتعليم المجاني على غرار السلطنة «القعيطية». المتعلمون كانوا في الواقع نواة التغيير الذين دفعوا بالمجتمع لإنشاء النقابات العمالية في مستعمرة عدن، كما أن الإسهامات في تمكين الفئات المجتمعية مهدت في أن تكون حواضن قوية لثورة 14 أكتوبر رغم التنافس السياسي الحاد بين الجبهة القومية وجبهة التحرير، إلا أن الطرفين كانا على قناعة كاملة بحتمية جلاء بريطانيا عن عدن.
بمغادرة الميجر «داي مورغان» آخر جندي بريطاني عن عدن وهو قائد الكتيبة 42 كوماندوز التابعة لمشاة البحرية الملكية مرافقاً للمندوب السامي «همفري تريفيليان»، ظهر اليوم الأول للجنوب سياسياً، وكان من السياق الطبيعي للحركة التقدمية والقومية أن تنتهج البلاد مسلكاً سياسياً بتوجهات علمانية، وكما تشكلت الدول الوطنية الحديثة بعد متأثرة بثورة الضباط الأحرار المصرية في 1952 تأثر اليمن الجنوبي واتخذ مساراً اشتراكياً، وإن كان قد التزم بالنهج الماركسي كما فعلت أقطار عربية عدة أخرى.
كان التوجه السياسي في اليمن الجنوبية يحتم بأن يتخذ مسلكاً علمانياً يضمن فيه وطنية الدولة. في شمال اليمن كانت تنتشر التيارات الدينية في سياقاتها الطائفية مما وضع الساسة الجنوبيين أمام هذا الخيار، يضاف إلى ذلك التنافر بين الدعوات القومية، أفرزت ميلاد جمهورية اليمن الجنوبي إلى أن تتأصل فيها منهجية الدولة الوطنية ببعدها القومي.
هذا النهج كان في مضمونه نتيجة للتيارات التنويرية التي نشأت في المكلا وعدن وقدمت مساراً علمياً أطرّ فيما بعد الاستقلال في دستور الدولة الذي استطاع توحيد السلطنات والمشيخات في كيان سياسي بهوية وطنية جامعة. فرض الإقليم على اليمن الجنوبي عزلة سياسية لعدم انصياعه للاتجاهات التي كانت سائدة في المنطقة. ورغماً عن العزلة إلا أن اليمن الجنوبي واصل نهجه التقدميّ الاشتراكي.
السياسات العامة وفرت التعليم المجاني وحتى البعثات الخارجية التي كانت أغلبها لدول المعسكر الشرقي آنذاك، ما وفره اليمن الجنوبي من ميزانيات للتعليم توج بإعلان منظمة اليونيسكو 1985 تحقيق البلاد المرتبة الأولى بين دول شبه الجزيرة العربية تعليماً، ووصول نسبة الأميّة إلى ما دون 2%.
اللافت أن سياسات اليمن الجنوبي منحت المرأة حقوقها السياسية الكاملة بعد إقرار قانون في 1974 وهذا القانون الفريد لم تصل له الدول العربية بالمطلق، ما تحقق لم يأتِ من غير نهج ليبرالي واضح فلم يتم الرضوخ لتيارات الإسلام السياسي التي كانت بالفعل تسيطر على العقل الجمعي العربي وتقود المجتمعات لغاياتها. تقييم تجربة اليمن الجنوبية بعلمانيتها مع النظر إلى التضييق على الحريات السياسية نظراً لما كان موجوداً بحكم الحزب الواحد، يعطي دلالة مهمة في أن الدولة الوطنية العربية يمكنها أن تعيد التجارب الناجحة لمواجهة الفكر المتعصب للجماعات الدينية بقوانين الدولة، فالقانون يعني العدل الذي يَخضع له الجميع في البلد الواحد.