بين مَلَكية شابّة مُقَنّعة وجمهورية شاخت وتآكلت تتأرجح صنعاء ومعها سبتمبر (المنقسم) ما يزال يحمل أسفاراً على بوابة تاريخ يؤلفه الأضداد في الداخل والخارج.
في الحدث السبتمبري الذي أسس عهداً لا عهد له خرجت صنعاء فعلياً من يد “الرئيس” ومن يد “الزعيم” ومن يد “الشيخ” ومن أيدي راكبي الثورات ومحدثي هزات الميادين والميديا ومخترعي الشهادة في سبيل الفوضى. خرجت في ليلة ليلاء واختفت في جيب الإمام المستجد.. فانسحبت “هامات ورموز” كان ينبغي عليها أن تُظهر نوعاً من التماسك والصمود وتثبت لشعبها أنها حاولت بدمائها… وأن للحرية ثمن باهظ هي قادرة أن تدفعه. لكنها لم تفعل بل تهاوت مثل كوخ من القش تاركةً خلفها صدى صياح الجماهير في ساحات “إرحل”..
صدى الدماء النازفة، وصليل السواعد العفوية التي ارتفعت ثم انكسرت كعيدان القصب… لتؤكد بأن من يركب الثورات بحثاً عن سلطة لن يكون مؤهلاً للدفاع بدمائه عن وطن، فالأوطان في قاموسهم حفنة تراب إما أن تحكمها أو أن تجرها نحو الانهيار لتُروى بدماء ساكنيها.
هناك صنعاء ما تزال بانتظاركم أيها الأخوة “المتعطشون لرائحة الحرية” التي ادعيتم زراعتها في دوّار الجامعة حين ضربت اقدامكم أرضاً هشة أخرجت من جوفها صهارات حملت كل أوساخ الحقب المدفونة وما لبثت بعد “حواركم” أن تدفقت وتشعبت حتى طاحت حريتكم وهاجرت في أرض الله المختنقة ب”كاربون” العقائد المتصارعة.. فهل تستعيدونها أم تستعيدكم؟
لم تعد هناك جمهورية عدا إسم على ورق ولم تعد هناك وحدة عدا لقب ذابل، منشور على حبل غسيل فضائي متشنج، ولم تعد هناك نخب سياسية حقيقية عدا أسماء مستقرة في عمق جراحات هذا البلد. وكأن صنعاء تقول مهما كانت صفة الطرف المنتصر الآن فالأمر لا يتعدى أن يكون تبادل مواقع بين الموتى، فجميعهم ينتمون إلى الأزمنة الغابرة.
لقد (قرف) الشارع من النخب السياسية بدءاً باليمين الديني وانتهاءاً بالأحزاب الوطنية واليسارية والقومية المتهالكة ورأينا مؤخراً كيف (نفَخَها) الشارع التونسي الفذ بعفوية خارج حلبة المنافسة واستبدل كل الماضي بوجوه لا تمت إليه بصلة. وهذا مؤشر على أن ما يحصل داخل الشعوب لا يشابه ما يروجه الإعلام والنخب.
وإذا عدنا إلى حقيقة أن اختلال المدركات في الواقع عند القارئ النخبوي ينم إما عن جهل شديد أو عصبية مفرطة فإنه وفي السياق يمكن الإشارة إلى أن المفاهيم والإصطلاحات التي يكرسها ساسة ومثقفون ورجال دين حين تبتعد عن مدلولاتها الحقيقية في الواقع والحياة فإن ذلك يشير إلى خلل في منظومة القيم وينذر بمراحل ظلامية من تاريخ شعب أو أمة. ذلك هو ما أصيبت به صنعاء الجميلة منذ زمن جراء تدافعات قوية على مستوى الخاصة والعامة وأنتجت صراعاً مشوهاً وتحولات كارثية. ومع ذلك ما تزال النخب السياسية على اختلافها تفرض تلك الاصطلاحات التي لا تجد ما يشابهها على الأرض.. ما يعني الإصرار على التمسك بالقديم والتشبث بالمصالح! فأين الجمهورية في وجه الإمام الحوثي؟ وأين الوحدة العادلة والديمقراطية في وجه الاخونجي المتجمد الذي لا يؤمن بفكرة الوطن؟ وأين الوطن الكبير في وجه من يعتبر الآخرين مجرد رعايا واتباع؟
صنعاء ليست غرناطة، ومن هاجروا منها ليسوا مورسكيين هربوا بدينهم من شبه الجزيرة الإيبيرية. أما “فتحها” فلم يعد متاحاً لا حرباً ولا سلماً لكنها في أغلب الظن ستستقبل العائدين فرادى وجماعة في عملية تتم ببطء عن طريق “التفويج المتدرج” فمجريات الحرب منذ خمس سنوات عززت هزيمة الشرعية التي حلت بها في عشية ٢١ سبتمبر ٢٠١٤.. بل قدمت مبررات تلك الهزيمة أمام العالم.
صنعاء أسيرة مصابها، واليمن جميعه بحاجة إلى هواء تجدده الفضاءات الرحبة… والاعتراف بالواقع وفهم طبيعة الصراعات الجارية هو بداية تحديد شكل ونوع الأزمة الذي يمهد للانتقال إلى بدء رحلة الخروج منها. عدا ذلك سيظل الخطاب السياسي يدق في طبول لا تنتظم مع حركة الواقع والوقائع.
في خاتمة المطاف الصنعاني يمكن القول بأن تلك المدينة لا تسكن على جبل النار المطل على بحر قزوين كما أنها لا تقيم على منحدرات جبل نمرود.. وإنما متشبثة بالسلسلة (البلدي) التي تأتي من خلفها غيوم الصيف المهاجرة من وسط أفريقيا.. تحيطها منذ الأزل مهما اختلف حكامها لتبقى عاصمة بلد الهموم المتوارثة حتى تتحرر من القوى الدينية الظلامية والعسكرية القبلية وتفتح سماواتها نحو مستقبل مختلف تحمله سواعد من يهتفوا.. بلد الهموم نحن هنا.
*- د أحمد عبداللاه ـ كاتب سياسي وخبير نفطي