أما يزال ممكنا الرهان على مؤتمر الحوار الوطني؟؟

2013-05-16 14:51

ما يزال مؤتمر الحوار الوطني يواصل أعماله وسط أجواء هي أقرب ما تكون إلى ساحة استعراض الخطابات والتباري في التعبيرات البلاغية منها إلى البحث عن رؤى تحليلية معمقة ومبرهنة للتغلب على المعضلات الموروثة من عقود الاستبداد والقمع والأحادية والفساد، والديمقراطية الزائفة والحريات الغائبة.

 

لا يمكن الحديث عن جذر واحد وحيد للمعضلات اليمنية المركبة والمتراكمة، فالبلد تمتلئ بالمشكلات والمعضلات المزمنة التي صارت اليوم تشمل كل ميادين الحياة من رغيف العيش إلى كبسولة الدواء ومن الأمن المفقود إلى فرص العمل المنعدمة، ومن الكرامة الإنسانية التي تهدر كل يوم إلى السيادة الوطنية المنتهكة على مر العقود، ومن حق التعبير المحدود إلى المساهمة الشعبية الغائبة في صناعة القرار ومن غياب التمتع العادل بالثروة إلى انهيار وتلاشي الخدمات الأولية الضرورية التي حصلت عليها أقرب الشعوب إلينا منذ عدة عقود.

 

نعم لا يمكن الحديث عن جذر واحد وحيد هو أصل كل هذه المعضلات المركبة والمتفرعة، لكن يمكننا الحديث عن جذر رئيسي تفرعت منه عدة جذور تناسلت لتصنع هذه المعضلة العنقودية المتفرعة والمتشابكة.

 

إن الجذر الرئيسي للمعضلات اليمنية يكمن في غياب الدولة ككيان وطني شامل وحضور الكيانات البديلة للدولة بفجاجة وقوة تفوق قدرة وحضور وقوة الدولة، . . .وهذا الغياب يعني غياب المؤسسات التي تنتج المواطنة وتحقق مصالح المواطن، وبموازاة هذا يأتي غياب القانون والنظام، ومن كل هذا يتولد غياب الخدمات وغياب الأمن وغياب المصالح الوطنية الكبرى وتفشي الظلم والفساد والقمع والانتهاك وكل ما يتصل بذلك من مساوئ تسير بالمجتمع القهقرى وتقضي على كل المعاني الجميلة لمفاهيم الوطن، الشعب، الثورة، الجمهورية، الوحدة، الديمقراطية والدستور وغيرها، وبمقابل هذا الغياب للدولة والمواطنة نشأ عندنا من الشرائح والأفراد الذين يرون أنفسهم فوق الدولة وفوق القانون وفوق الوطن والشعب، وهو ما يدفع الناس إلى البحث عن الكيانات الصغرى البديلة التي غالبا ما تتعارض مع بعضها ومع مفهوم الوطن والدولة والانتماء والهوية الوطنية، ومنه يذهب الناس إلى البحث عن مصالحهم الشخصية أو الفئوية وفي أحسن الأحوال المناطقية نظرا لغياب المصالح المشتركة بين أبناء المجتمع، وهو تماما ما لمسناه خلال ثلث القرن المنصرم.

 

ما يزال من الممكن الرهان على نتائج إيجابية يمكن أن يحققها مؤتمر الحوار الوطني لمعالجة المعضلات التاريخية لليمن وهذه الإمكانية لا تأتي فقط من الرغبة في إخراج اليمن من دائرة الأزمات والحروب والانقسامات الرأسية والأفقية، ولا من الادعاءات الشعاراتية التي تحاول تصوير اليمن وكأنها بلد المعجزات، أو حتى "بلد الحكمة والإيمان"، فهذا كان يمكن أن ينطبق على اليمنيين عندما كانوا يبنون الحضارة ويقيمون المآثر وينتشرون في الأرض لنشر القيم السامية التي جاء بها الإسلام الحنيف، أما اليوم فاليمن في الحقيقة لا تختلف عن جيرانها العرب في التخلف والفوضى والفساد بل إنها الأكثر سوءا في الكثير من المجالات، أعود وأقول أن إمكانية الرهان على مؤتمر الحوار الوطني تأتي من منطلق الاعتقاد أن اليمنيين ينبغي أن يكونوا قد تعلموا الدروس والعبر من إخفاقات ونزاعات الماضي القريب والبعيد ما يجعلهم يتجهون برغبة جادة وفاعلة نحو توديع مراحل الصراعات والتنازعات التي لم تنتج ولن تنتج إلا التخلف والأحقاد والضغائن واستمرار الإقامة في الماضي المملوء بالمآسي الدائمة، وهو ما يعني أن أمام اليمنيين خيارين لا ثالث لهما:

 

الخيار الأول هو الإقرار بأن أخطاء الماضي القاتلة هي من صنع القائمين على شئون هذا البلد المغلوب على أمره وبالتالي فإن على من يتولى ومن سيتولى أمر هذا البلد أن يقر ويعترف بأنه مجرد موظف لدى هذا الشعب لا يختلف عن المدير الصغير أو رئيس القسم أو ضابط الشرطة أو عامل النظافة أو سائق الشاحنة حتى وإن كان بدرجة رئيس جمهورية أو رئيس وزراء أو وزير أو قائد عسكري، وإنه مثلما له من الحقوق فإن عليه من الواجبات ما يجعله عرضة للمساءلة والمحاسبة، بل والعقاب إذا ما حنث بتعهده للشعب أو فرط بمصالحه، وإن يعلم ويقر أيضا أن زمن الزعيم الرمز والقائد المقدس والبطل الاستثنائي قد ولى ولا يمكن أن يعود لأنه لم ينتج لنا إلا الطغيان والديكتاتورية والفساد والقمع والتمايز الاجتماعي والانقسامات الوطنية وهذا الخيار يضع أمام الناس (كل الناس) في اليمن مسئولية السير نحو مشروع وطني كبير وشامل يخرج اليمن من دائرة التخلف والاضطرابات والأوبئة السياسية والاجتماعية إلى رحاب التنمية والنهوض والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.

 

والخيار لثاني سيكون كارثيا وهو الاعتراف بالفشل في الخروج من دائرة الماضي البغيض بكل مآسيه وكوارثه، وبالتالي فإن العودة إلى هذا الماضي لن تكون فقط مجرد استرجاع لمآسي وكوارث ما قبل 2011م ولا حتىى إلى ما قبل 1990م بل أن الأمور ستذهب (لا سمح الله) إلى أسوأ مما يخطر على بال الجميع وهو ما يعني دخول اليمن في مرحلة التفتت والتشظي والتوغل في سديم الانقسامات الخارجة عن كل سيطرة، حتى  عن سيطرة صانعيها.

 

عندما أعلن عن قيام الجمهورية اليمنية في العام 1990م اعتقد الكثير من أصحاب النوايا الطيبة من اليمنيين بأن قدر اليمن في الانتقال إلى تاريخها المستقبلي الحقيقي قد حان وتصور الكثيرون (ومنهم كاتب  هذه السطور) أن الجمع بين اقتصاد السوق والحريات العامة والتعديية السياسية والممارسة الديمقراطية وبين اعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع بما تعني من مبادئ العدل والحق والإعلاء من مكانة الإنسان وكرامته ورفض الظلم والجور وتحريم السطو والنهب والفساد، إن كل ذلك سيمكن اليمن من اللحاق بركب التطور والتقدم والازدهار لكافة أبنائه، لكن للأسف كان هناك من سخر هذا الحدث العظيم إلى وسيلة للإثراء والاغتصاب والسلب والنهب ومن ثم صار الاستبداد والإقصاء والخداع السياسي والتزييف والادعاءات الباطلة مجرد وسائل لتحقيق ما سخروا الوحدة والثورة والجمهورية من أجله ووصلت الأمور إلى ما وصلت إليه من انفجار الحرب وتدمير الوحدة وتحويل أحد طرفيها إلى مجرد ملحق تعرض للاستباحة والاستيلاء وبلغت الأمور مبلغها بنهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، وما جرى بعد ذلك معروف للجميع.

 

هل نستطيع أن نستلهم الدرس من تجربة الوحدة الفاشلة ونبحث عن خيار أفضل يخرج اليمنيين من دائرة الاتهامات المتبادلة إلى دائرة العمل المشترك من أجل المصلحة العليا للكل؟ هل يمكننا الإقرار بأن محاولة الاستحواذ والاستيلاء والاستعلاء والاستكبار والخداع والمغالطة والتزييف وتزويق الحقائق هي تجربة فاشلة بامتياز ولم تثمر إلا الضرر للجميع بما في ذلك صانعيها؟ هل يقر المتمسكون بالخيارات الفاشلة أن عوامل استمرار الفشل قد زالت وإن فرض الخيارات السياسية بالقوة أو بالاحتيال لم يعد ممكنا بعد أن تمرد الشعب على أعتى قوة في تاريخه وأطاح بها؟

 

اليمنيون اليوم ليسوا بحاجة إلى خطابات منمقة ولا إلى تبادل اتهامات السياسية بين الفرقاء بل إنهم بحاجة إلى مبادرات خلاقة تنتج لهم مصالح فعلية، مصالح هي أصلا من صلب حقوقهم، وأهمها: قيام كيان كبير يعبر عن هويتهم وكينونتهم، كيان اسمه دولة المواطنة لكي لا يضطروا للبحث عن كيانات أخرى أصغر تعبر عنهم، وإنهاء الظلم التاريخي الذي كرسه الطغاة الذين اعتبروا وصولهم إلى السلطة (بالحق أو بالباطل) قد جعلهم آلهة صغار على الشعب أن يعبدهم من دون الله، . . الشعب بحاجة إلى دولة توفر له الغذاء والدواء والعمل والأمن وخدمات الماء والكهرباء والاتصالات والمواصلات الآمنة والرخيصة وهي حقوق توصلت إليها الشعوب الأخرى منذ عقود وقرون، دولة تنصف المظلوم وتردع الظالم، تأخذ حق المنهوب من الناهب، وتعيد للمسحوقين كرامتهم التي فقدوها بسبب الاستبداد والطغيان.

 

اليمن اليوم لم يعد من الممكن أن يحكم بالخداع والاحتيال وادعاء البطولات الزائفة وتزوير الحقائق والزعم بأن الهزائم انتصارات أو أن الظلم عدل أو أن الزيف حقيقة أو أن الباطل حق أو أن التخلف ازدهار أو أصالة كما كان الأمر على مدى ثلث قرن خلا بل لقد وعى الشعب الحقائق وأصبح قادرا على التمييز بين تلك الثنائيات وهو كفيل بفضح كل من يحاول خداعه والكذب عليه واستغفاله مرة أخرى.

 

هل يستطيع مؤتمر الحوار البحث عن مدخل لتحقيق هذه المصالح للناس؟ إما إذا لم يستطع الدخول إلى هذه المساحة فإنه سيكتفي بدور مهرجان عكاظ الذي يستعرض فيها المتحدثون أحاديثهم ويتناولون بطولاتهم الحقيقية والمزيفة ويتركون الناس بعد ذلك يذهبون في سبيلهم خاليي الوفاض من أي ثمرة من تلك التي راهنوا عليها.

 

برقيات:

*     سؤال يكرره أكثر من مراقب محايد: لماذا كل وسائل الإعلام الرسمية من صحافة وإذاعة وتلفيزيون ومواقع إلكترونية تستكثر نشر خبر ولو صغير عن فعاليات الحراك السلمي في محافظات الجنوب، وتكتفي فقط باستعراض الأخطاء والهفوات التي قد يرتكبها بعض أفراد الحراك وتضخيمها والتهويل منها وكأنها كل شيء في الجنوب . .على الأقل باعتبار مواطني الجنوب هم من دافعي الضرائب التي تمول تلك الوسائل الإعلامية.

 

 *    الاستقالة التي تقدم بها أحد قياديي المؤتمر الشعبي العام إلى رئيس المؤتمر لم تكن بسبب أن هذا الرئيس حول البلاد إلى عزبة، ولا لأنه ارتكب جرائم قتل معلنة في حق الشعب ولا لأنه أشعل الحروب المدمرة في أكثر من بقعة في اليمن، ولا لأنه فرط بالسيادة الوطنية وترك الأجواء للطائرات الأجنبية تقصف وتقتل حيثما شاء أصحابها، ولا لأنه باع الثروة الوطنية بأبخس الأثمان،  . .بل لأن رئيس المؤتمر (كما قال صاحب الاستقالة)، فرط بالوحدة اليمنية ووافق على نظام الأقاليم. . . . .ولله في خلقه شئون.

 

*    قال الشاعر الإسلامي عروة ابن حزام:

 

خليليَّ  منْ  علــــيا هلالِ  ابنِ  عامرٍ        بِصَنْعَاءِ  عوجا اليومَ  وانتظراني

أَلم  تَحْــــــلِفا بِالله  أَنِّي أَخُـــــــــوكُمَا        فلمْ تفــــعلا ما يفــــــعلُ  الأخوانِ

ولم  تَحْــلِفا  بِالله  ما قــدْ عَرَفْـــــــتُمَا        بذي  الشّـــِيحِ  رَبْعاً ثُمَّ  لا تَقِــفَانِ

ولا تَزْهدا في  الذُّخْرِ عندي  وَأَجْـمِلاَ         فَإنَّكُــــمَا بِــيْ الـــيومَ مبتَلِـــــيَانِ

* Email: [email protected]