عرّف الواقعيون السياسة اصطلاحاً بأنها الفن الممكن أي معرفة الواقع ودراسته ومعرفة الفرص الممكنة والمخاطر لتجنبها ونقاط القوة والضعف والعمل على تغيير الواقع بالأفعال السياسية المتميزة التي لا يجيدها كافة الناس، فرجال السياسة الحقيقيون يجيدون توظيف العلاقات على قاعدة ما هو ممكن ومستحيل تماهياً مع الظرف اللحظي ومُواءمةً مع المناخات السياسية السائدة والموقف الواقعي وما تتطلبه المرحلة، وفق الإطار الجامع بين الواقعية والطموح، ومن هنا تتم المساكنة بين واقع الشعوب وأحلامها المستقبلية القابلة للتحقيق.
ليس من الصواب أن يتحول عامة الناس في وقت الأزمات إلى منظرين سياسيين، فالسياسة لها أهلها ورجالها ويعرفون متى وكيف يتخذون القرارات في المكان والزمان المناسبين، أما أن تتحول السياسة إلى هواية منثورة بين أيدي عوام الناس والناشطين، وفي مقايل "القات" والكافيات يلوكها الصغير والكبير والعاقل والسفيه والمندس، فيختلط الحابل بالنابل والغث بالسمين.
لا تستقيم السياسة ولا يمكن أن تكون هكذا، يجب أن نعطي الخبز لخبازه، فالطبيب في مجال الطب، والمعلم في مجال التعليم، والعسكري في العسكرية والحرب، والسياسة كذلك للسياسيين، لها أناس متمرسون ومطلعون ويعرفون المداخل والمخارج، ويقومون بجولات خارجية على مستوى الدول ولديهم خطوط اتصالات مستمرة مع الإقليم والدول الخارجية، ويعرفون الكثير والكثير مما يجهله كثير من عامة الناس والناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي.
أصبح الكلام في الشأن السياسي أشبه بأسواق الحراج، وأغلب الاستنتاجات والتحليلات التي نطالعها كل يوم تحتوي على معلومات غير حقيقية، وليس لها مصادر موثوقة، وما هي سوى أوهام يتوهمون تترافق مع نشوة المقيل بعد الظهيرة، ثم يتم البناء عليها وإصدار الأحكام ويفتون بما ليس لهم به علم ومن هنا تبدأ المشكلة.
ما لا يدركه عامة الناس ومعظم الناشطين أن قيادتنا السياسية في الجنوب قد تفوقت على جميع القوى السياسية اليمنية، وقد شهدنا أصنافاً مختلفة من السياسات خلال العقدين الماضيين باليمن منها: النوع الأول سياسة "يالله ستّر يالله ستّر" وخير مثال عليها سياسة الحزب الحاكم المؤتمر الشعبي العام وحلفائه في عهد المخلوع صالح، كانت غايتها الاستمرار والبقاء والاستفادة والتكسب من المنصب والمسؤولية وتتجنب الصدام والتغيير والصراع خوفاً من فقدان السيطرة وانفراط عقد المسبحة، وبالتالي تقبل بالتنازلات والحلول الوسطية والمسامح كريم.
أما النوع الثاني من الممارسات السياسية هي تدمير المنظومة السياسية دون فهم المرحلة والمخاطر المحيطة، ومثال على ذلك أحزاب اللقاء المشترك وعلى رأسها حزب الإصلاح جماعة الإخوان فرع اليمن، والتي شكلت ما بات يعرف اليوم بالشرعية، فقد ركبوا موجة الربيع العربي بدون معرفة كافية لما تحتاجه المرحلة فأوقعهم المخلوع صالح في مستنقع لم يستطيعوا الخروج منه، وقد أوصلوا البلاد إلى التفكك والدمار.
النوع الثالث من السياسة هي غايتها التغيير وإنهاء الوضع القائم، لكن مع وعي وإدراك ما هو ممكن في الوقت المناسب، ومثال ذلك سياسة المجلس الانتقالي الجنوبي الذي تأسس بعد الربيع العربي والمد الفارسي وعاصفة الحزم، وحول الجنوب إلى قوة سياسية وعسكرية في وقت قياسي، وهذه السياسة الجنوبية صنعت التغيير على الأرض بوعي وتدرك ما تفعله وما ستفعله، وقلبت الطاولة على قوى صنعاء وأحزابها السياسية الحاكمة والمعارضة، ونجحت في كسب المعركة العسكرية والسياسية وعلى قولة المثل: "وعادكم ما شفتوا من الجمل إلا أذنه".