الحمد لله..
* كان لسيدنا محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، هدى فى مفهوم الثروة يتلخّص فى النظر إلى الإنسان على أنه هو الثروة الحقيقية التى ينبغى أن تُستثمر الثروات الأخرى فى بنائه.
* فكان يستثمر ثروة الوقت فى التعليم والتربية وربط القلوب بالله وحثّها على الإحسان فى القول والفعل حتى أنفق عمره الشريف على بناء جيل الصحابة والرعيل الأول من آل البيت، فكانوا يتواصلون مع يومياته فى بيته ومسجده، وفى السوق والمزرعة، وفى السفر والحضر..
* وتفاعل الصحابة مع هذا الأمر حتى بات يمسّ خصوصياته، فأنزل الله آيات فى سورة الحجرات تحفظ هذه الخصوصيات بتشريع الاستئذان قبل الدخول إلى حجرات النبى وعدم إطالة الجلوس بعد تناول الطعام عنده والإنكار على من يناديه من وراء الحجرات أثناء وجوده مع أهل بيته مخترقاً بذلك حرمة هذه الخصوصية..
* وكان يستثمر ثروة العقول فى تعليم من يحيط بهم، حتى إنه جعل ضمن فداء أسرى غزوة بدر الكبرى أن يعلّم الأسير عدداً من أبناء المسلمين الكتابة والقراءة.. وجاءت الأحاديث الشريفة التى تحث على العلم وتُعظِّم ثواب من طلبه ومن بذله، وصحّت أحاديث تُخبر عن تعظيم العوالم المحيطة بنا لمن يُعلِّم العلم ومن يتعلّمه؛ فالملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع والمخلوقات فى السماء والأرض تُصلى على مُعلّم الناس الخير، وكلها يستغفر لطالب العلم، حتى الحيتان فى البحر والطير فى السماء.
* وكان يستثمر ثروة جاهه ومكانته بين الناس فى تصحيح مسار التعامل مع كرامة الإنسان؛ فبدأ بإسقاط حق الدم المتعلق بثأر ابن عمه أولاً ليعلن القضاء على مسلسل الثأر الجاهلى حفاظاً على حياة الإنسان.. وبدأ بإسقاط الأرباح الربوية الجاهلية التى كانت لعمه العباس قبل أن يعلن إسقاطه لسائر الاستحقاقات الربوية التى كانت فى الجاهلية حمايةً للفقراء من استغلال رؤوس الأموال الكبيرة لحاجتهم..
* وكان يستثمر ثروة ولاء المؤمنين له بالسمع والطاعة فى ترتيب مفاهيم الأولويات فى البنية العقلية للإنسان المسلم.. فنهاهم عن تعنيف الأعرابى الذى يرتكب منكر «التبوّل» فى المسجد حتى لا يتسبب التعنيف الجماعى فى ترويعه، مما قد يصيبه بمرض احتباس البول، وقال لهم: «لا تُزرموا الرجل بولته»، وتركه يكمل فعلته المنكرة الملوثة لبيت الله حفاظاً على صحته الجسدية والنفسية، ثم أقبل عليه يُعلّمه برفق ضرورة رعاية حرمة المسجد وقدسيته، وأمر أصحابه بغسل المكان وتطهيره بالماء ليؤسس للقاعدة التى عبّر عنها شيخنا الإمام العلامة على جمعة بقوله: «الساجد قبل المساجد والإنسان قبل البنيان».
* واستثمر ثروة المال فى بناء الإنسان وابتدأ بنفسه، فكان ينفق كل ما يرد عليه من مال خاص وعام على حاجات الفرد والمجتمع ولم يقبل أن يدّخر شيئاً من ذلك.. حتى إنه خرج من المسجد بعد إقامة الصلاة ثم عاد وصلى بالناس، وعندما سألوه عن خروجه المفاجئ أخبرهم بأنه تذكر أن بعض الدراهم كانت فى بيته فأنفقها قبل أن يقف بين يدى الله تعالى..
* وحينما كان يستعد للقاء الله تذكّر وهو فى سكرات الموت أن بعض الدنانير بقيت فى بيته فأمر بإنفاقها..
* وأوصى أن يكون ماله الخاص صدقة جارية من بعده، على اعتبار أن الأنبياء لا يورثون دون أن يُشرّع ذلك للآخرين حفاظاً على الحق العام للورثة فحدد الثلث معياراً لأقصى ما يمكن أن يتصدق به الإنسان فى وصيته..
* ثم حثّ على الصدقة الجارية ورغّب فى الوقف لتوظيف الثروة المالية للفرد فى بناء الإنسان، فشهدت الأمة طفرة مذهلة فى توسّع الوقف ليصل إلى حد وجود وقف لرفع معنويات المريض يُستأجر مِن ريعه مَن يُضحك المريض ويُدخل السرور عليه، ووقف آخر لاستئجار من يقوم بالحديث بجانبه عن الحالات التى شُفيت بعد أن كانت مصابة بنفس مرضه..
* ووقف آخر لإصلاح الآنية المكسورة، حتى لا يتم توبيخ الخادم الذى يكسر الإناء حفاظاً على آدميته، وهذا بعد انتشار أوقاف كل من المدارس والبحث العلمى والمستشفيات والمساجد..
* بل وسّع دائرة استثمار هذه الثروة فى عمارة الأرض التى استخلف الله فيها الإنسان، فقرر لأمته أنه فى كل كبدٍ رطبةٍ أجر..
* فظهر وقف فى الشام لرعاية «الكلاب الضالة»، أى: المشردة، ووقف فى المغرب لتجبير سيقان «الطيور المهاجرة ذات السيقان الطويلة» فى حال إصابتها بالكسور أثناء سفرها!
* هذا المفهوم الراقى للثروة العظمى التى تُستثمر فى سبيلها مختلف الثروات الأخرى هو ما نحتاج اليوم إلى إحيائه وإلى إعادة النظر فى ترتيب أولوياته فى ظل التهافت الـمُزرى على تضخيم ثروات المال والجاه والسلطة، التى كثيراً ما ننخدع فى غمارها بتبريرات واهية تُدلّس فيها أنفسنا علينا بزعم أن هذا التهافت سوف يُوظَّف فى الإعداد لنهضة الأمة، مستشهدين بتجّار الصحابة كسيدنا عثمان بن عفان، رضى الله عنه، ونغفل حينها عن ترتيب الأولويات فننسى أن سيدنا عثمان قد خرج عن ماله مرتين فى سبيل الله، بمعنى أنه أنفق جميع ما يملك ليبدأ من نقطة الصفر مرتين، وننسى أنه فى عام اشتداد الجوع والفقر رفض عروض تجار المدينة بمضاعفة أرباح قافلته إلى 600٪ وأعلن أن هناك من عرض عليه ربحاً يبدأ من 1000٪، فلما استنكروا كلامه وشككوا فى وجود تاجر يعرض هذا الربح وأخبروه بأنه ليس هناك تجار فى المدينة سواهم وحذروه من الطمع قائلين: «ما زادك الإسلام إلا طمعاً».. قال لهم: إن الله قد وعدنى فى الحسنة عشر أمثالها، وأشهدهم أن القافلة صدقة على فقراء المدينة.
* إن ما نشهده اليوم من تطاحن مرير على ثروات المال والجاه والسلطة فى سياق تنافسى تعصف بنا رياحه فى متاهات الرغبات ومهالك الانفعالات ومهاوى الطموحات، فترخص فيه قيمة الإنسان ويُمحى اعتباره من قاموس الثروة،فضلاً عن جعله الأولوية الأولى فيها لهو عين ما حذرنا الله تعالى منه فى درس ابنَى آدم «هابيل وقابيل»..
* الدرس الأول عن النتائج المريرة لصراع الرغبات والثروات على وجه الأرض: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ».
* ما أشد حاجتنا إلى مراجعة المفاهيم والأولويات اليوم..
* وما أعظم حاجتنا إلى معرفة قيمة ثروة الإنسان الذى هو بُنيان الله فى الأرض.
* اللهم إنا نسألك فهمَ النبيين وحفظَ المرسلين وإلهامَ الملائكة المقربين. اللهم أغننا بالعلم وزينّا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجمّلنا بالعافية.