الصدوع، التي أخرجت أثقالها في رمضان/حزيران الماضي، كشفت بأن الأزمة الخليجية أعمق مما كان يتصوره كثير من المراقبين السياسيين والاستراتيجيين، وأثبتت أن لحظة القطيعة كانت دائماً حاضرة، ولم تكن روابط القربى أو العاطفة البدوية لعرب الخليج قادرة أن تحجب "لظى العمق".
مجلس التعاون الخليجي بوجه عام يشهد مزيجاً من تباينات موضوعية متزايدة ليس فقط فيما يتعلق بالمسألة القطرية ولكن هناك اختلاف في قضايا جوهرية داخلية وخارجية بين الأعضاء.
فالكويت تقع تحت تأثير طيف من تكتلات الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، إلى جانب بعض النخب الليبرالية والقومية.. وتحاول مؤسسة السلطة إدارة هذه المنظومة القلقة تحت غطاء تجربة ديمقراطية محلية بشروط مكلفة، وتطبيق سياسة خارجية تضمن الاستقرار الداخلي وعدم المساس بأي توازنات مكتسبة، حتى لو كان على حساب علاقات مصيرية مع بعض الأشقاء. بينما تزُمّ سلطنة عُمان شفاهها لتحافظ على صمت المحايد المصاب بمسّ تاريخي وجغرافي حدد خصوصياتها وعلاقاتها الإقليمية الدقيقة، ولخّص فلسفة السلطان في البعد عن أضواء الزحمة. مما يضع مجلس التعاون في مواجهة حاسمة (إن لم يتغير النظام القطري، أو يقدم سلة كافية من التنازلات) مع واقع مرشح لأن يتجاوز الصيغة الحالية نحو شكل يتعامل مع ثلاث كتل، تتعمق فيه صلات البعض، وتنقطع وشائج البعض الآخر، في حين يظل طرف ثالث على حالة الثبات القهري في المنتصف ظاهرياً على الأقل.
الخليج الواحد يعاني إذاً من تصدعات عميقة ونهائية، وما يزال مؤهل لمزيد من الخضات، بحيث يصعب على الرائي أن يجد منطق كاف لاستمرار مجلس التعاون كما عرفه العالم، أو العودة إلى خليج ما قبل ٥ حزيران ٢٠١٧.
وعلى مستوى آخر فإن دول الخليج التي لا تستطيع، بعد تجربتها الطويلة، الحفاظ على "شكل تعاوني تقليدي" لأسباب مقروءة ومسموعة، أصبحت مدركة لما يعانيه الجار الإقليمي في اليمن الذي يعيش على أرض الواقع مخاضات العودة إلى ما قبل ٥/٢٢، بعد أن استمرت الوحدة بالقوة لأكثر من عقدين خلفت تراثاً من الحروب وحمامات دماء، تكفي لأن يشرّق أحد الطرفين إلى عطارد إن غرّب الآخر نحو نبتون... وتكفي لأن يبقى جرح الوحدة ينضح بألم الذكريات المرعبة لعقود قادمة.
يدرك العالم بأن الشمال والجنوب بحاجة ماسة إلى استراحة طويلة وإلى البحث في شكل علاقة جديدة ترمم المعاني الجميلة للروابط التاريخية، دون أن يظل الجنوب مملوكاً لأحزاب وجماعات دينية وقبلية مسنودة بجيوش ومليشيات تتكاثر في كل زمن بوعيها الجارح وأهوائها المتعطشة للهيمنة المستدامة.
صنعاء وعدن فرّقهما -حتى القطيعة- الخلاف الجوهري حول المشروع السياسي للوحدة، وماتزال القوى التي تتصارع على الحكم في صنعاء، ترى في الوحدة وسيلة ابتلاع نهائي دون إبقاء أي أثر حسي أو معنوي للآخر. لهم "المذبح والمسكن والسلطان" وللآخر الطاعة والأجر. ولم يعد ينفع أي شكل من أشكال الإندماج أو الإتحاد، لأن الأوليغارشيات المتنفذة في صنعاء تمتلك خبرة تاريخية في إفراغ محتويات أي مشروع كان، بعد أن سجلت فشلاً تاريخياً في الحفاظ حتى على الشكل البدائي للدولة بصورها المتعاقبة.
ومن زاوية مقابلة يدرك الناس جيداً بأن مصطلح "التقسيم" الرائج في بكائيات "ثوار الربيع" و"حلفائهم السابقين" الذين أجهزوا على الوحدة في مهدها، ما هو إلا "طبل المدى" الذي يُضرب للتضليل و"لتهويش" القطعان السياسية العروبية، والخليجية منها، لإبعادها عن حقائق أن الوحدة اليمنية، بعد ٩٤، كانت هي بداية التقسيم التاريخي الفعلي بين الشمال والجنوب وفقاً لقانون السيد والمسود، الأغلبية والأقلية، القوة والضعف،الجبروت والإذلال، المالك والمملوك، وبكل ما تعنيه الكلمة بأبعادها الإنسانية والاجتماعية والسياسية التي أصبح الجنوب على أساسها بعيداً كل البعد عن الشمال معنوياً ووجدانياً وحياتياً.. مساراً ومنهجاً وتطلعاً... بينما كانت الوحدة القسرية تضع غلاف زائف فوق حقائق الواقع الذي تآكلت في صميمه وشائج التاريخ والجغرافيا والقربى، بعد أن عاش الشعبان في ظل دولتين وحدةً روحيةً أزلية.
وهناك كلمة لبعض إعلام الخليج الهادر، لابد أن تُكتب وتُقال بالعاميّة وبالفصحى:
من لا يستطع أن يحافظ على " مجرد" مجلس تعاون وعلاقات "الجيرة والمصالح" بعد تجربة طويلة، لا يحق له أن يُنظّر عن تجارب "الوحدة والإنفصال" عند الآخرين، ويخلط بين كاتالونيا وكوردستان و"غيرها"، ويستنتج العبر ويسوقها للآخرين، مثلما ورد في افتتاحية إحدى الصحف الخليجية "المستقلة" مؤخراً. يكفي الناس وعظ من مراهقين إعلاميين فقد غرقت المنطقة بوعظ آبائهم الصحويين على المنابر، فلا تغرقوها على منصات الإعلام السياسي، فأنتم لا تدركون بالتفصيل كيف تعيش الشعوب المغدورة.
الجنوب لم يكن أبداً إقليم أو مقاطعة تم إلحاقها، وليس جماعة "تحت قومية"، بل كان دولة كاملة السيادة.. والجنوب ليس كاتالونيا، بالرغم أن كل جنوبي يكاد يصرخ؛ أعطونا دولة فيها ٣٠٪ من واقع وقيٓم الدولة الأسبانية وسنتمسك بالوحدة حتى قيام الساعة. واليمن الموحد ليس الإمارات المتحدة لأن صنعاء لن تكون أبو ظبي وقادتها ليسوا أولئك القادة المؤسسين، ولو كانت كذلك لدافعت عدن عن الوحدة أكثر من صنعاء.. والجنوب ليس "كوردستان" لأن "القومية الكوردية" تتوزع على أربع دول كبيرة، مزقتها أحداث الزمن وإرادة الغرب، وظلمها العرب والمسلمون تاريخياً، و"الكورد" أمة عظيمة وعزيزة، وسيأتي يوم تشرق فيه شمسهم.. فالشعوب القوية لا تموت.