مسجد أبان بن عثمان من أقدم المساجد في عدن دمرته صنعاء عبر رأسماليتها
ببطء شديد تسير حافلة صغير في الشارع الرئيس بحي خور مكسر في الطريق إلى حي كريتر العتيق في مدينة عدن حاضرة الجزيرة العربية. تقل الحافلة 15 راكبا بينهم خمس نساء، كانت عجوزا في منتصف الخمسينات تقعد في مؤخرة الحافلة، فيما يدندن فنان عدني بصوت شجي في الحافلة "عَلي (أرفع) الصوت يا أبني دا الفنان "محمد عبده زيدي", آه على الزمن الجميل يا خالة، تصدقوا انك انتم الجمال دون غيركم..
شاب في الثلاثينات من عمره يتحدث الى العجوز القاعد في المؤخرة، وقبل ان تجيب على حديث، صاحت بصوت مرتفع "طفي السجارة يأبني كضمتني".
حالة من الصمت تسود الحافلة، قبل تتحدث العجوز "شوف يا أبني نحن مش جميلين ولا حاجة "عدن هي اللي جميلة".
عاد الجميع للصمت، ولسان حالهم "ماذا نقول لقد قتلوا عدن، وقتلوا فينا روح المدنية والاحترام".
إلى وقت قريب كان ممنوعا شرب السجارة في الاماكن العامة او على وسائل النقل، لكن في الآونة الأخيرة يقول مواطنون ان الكثير من مظاهر الاحترام والحب للأخر اختفت في المدينة.. لكن من المتسبب؟ يسأل أحدهم.
توقفت الحافلة عن حاجز أمني امام "فندق ميركيور" وهو أول معالم الدمار للحرب الأخيرة التي شنها الحوثيون وقوات الرئيس اليمني المعزول علي عبدالله صالح.. لقد كانت حربا مدمرة دمرت كل شيء في المدينة العريقة. يبتسم الجندي للركاب، فقد شاهد علامات الحزن بادية على محياهم، فيما صوت محمد عبده زيدي لا يزال يتردد " الحب ما يختفي وكيف لي اخفيه، والدمع يشهد وقلبي رجفته تحكيه".
في مدخل حي كريتر، تشاهد للوهلة الأولى المساجد والكنائس وقد اصطفت بشكل يوحي بأن التعايش في المدينة العريقة لا يزال قائماً، لكن شيء من هذا لم يعد موجودا.
عرف حي كريتر بأنه من أكثر الاحياء التي سكنها ابناء عدن المتعايشون والذين أتوا من جميع الاقطار وعاشوا وتعايشوا فيها بسلام وأمان.
في كريتر تقع أقدم وأعرق المساجد التي تقع جنبا إلى جنب مع الكنائس. في خمسينات القرن الماضي، كانت عدن لؤلؤة الجزيرة، بلا انها تفوقت في المدنية والحضارة على العديد من العواصم العربية ان لم تكن مثلها على الأقل، فيما أصبح اليوم حالها لا يسر. مقاهي زكو والسكران الواقعان في حي كريتر يعدان من اقدم المقاهي الشعبية في شبه الجزيرة العربية، واللذين كانا ملتقى الجميع من مختلف الطوائف والاقليات، كانوا يجلسون في تلك المقاهي دون تمييز غير انهم يتنافسون على حب وعشق عدن.
لم تنل الحروب التي جرت هنا في العاصمة من تعايش وتسامح المدينة رغم ضراوتها، لقد كانت حربا بين الساسة لم تطل اثار المدينة ومعالمها، على النحو الذي طالها لاحقاً.
"كانت حروبا تدوم ايام قليلة، ثم تتوقف فتعود الحياة إلى طبيعتها"، يقول صديقي الذي التقيته قرب البنك الأهلي اليمني أخر معالم دولة اليمن الجنوبية الشعبية التي كانت تحكم الجنوب قبل عام 1990م. تذكرت حديث "نبيلة" موظفة في البنك الأهلي ذات يوم قالت "إن البنك الأهلي اليمني هو المنشأة الوطنية الجنوبية الوحيدة التي تبقت في حين طمست صنعاء كل شيء في الجنوب".
منذ الاستقلال عن بريطانيا، حافظت عدن على تعايشها السلمي لبضعة عقود، قبل أن تتوحد اليمن الجنوبية مع جارتها اليمن الشمالية وتشكلا فيما مايو (ايار) 1990م، ما عرف بالجمهورية اليمنية، لكن هذه الوحدة كانت المقدمة الأولى لهجرة سكان عدن إلى خارجها. فالحرب التي شنها اليمن الشمالي على الجنوب (كانت مصحوبة بفتوى دينية) يقول جنوبيون إن الشمال مارس بحقهم ابشع انواع القتل والتنكيل.
عشرات الأسر العدنية تركت عدن وهاجرت باتجاه لندن والهند وعواصم أوربية أخرى. إن الحرب التي شنها الشماليون (تحالف صالح والإخوان) كانت كارثية على سكان عدن، فلم يتبق هنا في المدينة الا قلة قليلة من سكان الاقليات الذين سكنوا عدن مع الحكم البريطاني لها.
فمنذ حرب 1994م، يقول مهتمون إن العشرات من الاسر العدنية ان لم يكن المئات غادروا حي كريتر دون رجعة وتركوا منازلهم التي استولى عليها نافذون من شمال اليمن. يشير أحمد ناحية بيت عتيق في وسط حي كريتر "هذا البيت تركه أهله وغادروا إلى خارج عدن، بعد الحرب الأخيرة". حرب 1994م لم تكن وحدها من قضت على التعايش السلمي في عدن، فالحرب الأخيرة التي شنها الحوثيون واتباع صالح، ساهمت في هجرة ناس أخرين. يقول المواطن (أ، ش) "انه يستعد للرحيل خارج عدن دون عودة".. مشيرا إلى أن نجله الأكبر (ع) لا يعرف عنه اي شيء، وانه مضطر لمغادرة عدن خشية على اولاده الأخرين.
يقول لـ(اليوم الثامن) "حلمي ان احصل على لجوء في اي بلد غير عربي، نريد ان نعيش بسلام ونتمنى ان نجد نجلنا الأكبر الذي لا نعرف عنه اي شيء منذ نحو ستة اشهر، ندرك أنه على قيد الحياة ونتمنى ان نلتقي فيه قريبا، ولكن نخاف على اخوانه". يعتزم المواطن من أصول هندية مغادرة المدينة التي ولدت وترعرع فيها إلى الخارج دون رجع "سوف اقبل تراب عدن قبل ان اصعد الطائرة". يغادر قريبا المواطن العدني "أ، أ، م، ش وزوجته ن. م. ع. ن، مع ثلاثة من اطفالهم (أمين، أحمد، أنفال) إلى خارج عدن، في حين لا يعرف مصير نجلهما الأكبر ".
كان المواطن العدني يحلم بان تعاد جمهورية اليمن الجنوبية التي كانت قائمة إلى قبل العام 1990م، وتفاءل بالانتصار الذي تحقق، الا انه يقول "الحلم تبدد، ليس امامي الا الرحيل ومغادرة عدن". كان الجنوبيون يشعرون ان حلم استعادة بلادهم قد اقترب مع الانتصار الذي حققتها القوات الجنوبية ضد الغزو الشمالي المتجدد، لكن الارهاصات التي اعقبت التحرير حالت دون ذلك.
ترفض حكومة الرئيس هادي ان يذهب الجنوب نحو الاستقلال، فالحرب التي يقاتل تحالف عربي مكون من عشر دول لاستعادة شرعية الرئيس هادي في صنعاء، الا ان وفقا للعديد من الاشخاص فان حكومة هادي تسعى بقوة لاستعادة القوات التي تم طردها من عدن.
اعترفت الحكومة اليمنية عن طريق وزير خارجيتها عبدالملك المخلافي بانهم يحاصرون عدن (خدماتيا) حتى لا يذهب الجنوب نحو الاستقلال". فإي استقرار في الجنوب وعدن يقول المخلافي انه قد يؤسس لقيام دولة في الجنوب، والحل هو محاصرة المدينة ومنع عن سكانها الخدمات.
مسلسل التهجير لسكان عدن لا يزال مستمرا، وحلم الاستقلال لا تزال حكومة اليمن الشرعية تقف عائقا أمامه، بل يقول سكان إنها مستعدة لإبادة ما تبقى من سكان الجنوب حتى لا يحصلوا على الاستقلال. يعتقد اليمن الشمالي ان المجاعة قد تضر بسكان الشمال في حال وذهب الجنوب الى الاستقلال لأنه 80 % من ثروات اليمن الموحد موجودة في الجنوب الذي يعاني سكانه من شظف العيش.
هنا في عدن التي تعايش سكانها فيما بينهم باتت اليوم اشبه بقرية ريفية تفتقد للمدنية التي عرفت بها. مدينة المساجد والكنائس باتت اليوم تفتقر الى التعايش الذي حث عليه الاسلام، لكن من أتى من اقصى اليمن الشمالي ليقضي عليها. يرحل سكان عدن الأصليون تباعا وتبقى عدن المدينة التي عشقوها حتد الجنون، لكنهم تركوها مجبرين في رحلة دون عودة، فأبو أمين يذرف الدموع على عدن فهي لم تعد بعد اليوم مدينته التي عاش فيها أجمل سنين عمره.