ظلت تريم فترات طويلة في منأى عن مناهج الفكر الضال ومحاولاته المستميتة لاختراق أركان هذه المدينة الفكرية والعقائدية قبلة الوسطية والاعتدال، ورغم كل ما بذلته الكثير من الجهات المشبوهة التي تدثرت برداء تسويق مشاريع وبرامج خيرية وتنموية، بهدف إيجاد حاضنة وقاعدة تستطيع أن تتحرك من خلالها مستقبلا ، ظلت تريم كالقلعة المحصنة التي تتحطم تحت صخورها كل المؤامرات، وتنهار أمامها التيارات المسمومة الجارفة .
منارة الاعتدال والوسطية:
مثلت مدرسة تريم الدينية ببلاد حضرموت منارة الاعتدال والوسطية، أشعاعها يحلق منذ الازل في اصقاع العالم بسكينة تسقيه من معينها النبوي الصافي الزلال الذي لا يساوره شك أو ريب أو تفريط، مدرسة تريم الدينية كانت ومازالت أهم المدارس الدينية التي لقنت هذا العالم مبادئ السلام والمحبة والتعايش، وروته من ينبوع اخلاقها وقيمها وجسدت الأسلام الحقيقي القائم على الاعتدال والأنصاف لتجذب ملايين البشر إلى حضن الإسلام الدافئ.
أسس قويمة انتهجت هذه المدرسة الدينية الحضرمية أسس قويمة في سبيل الدعوة إلى الإسلام عمودها الوسطية والعلم، لقد شكل هذان الأساسان رافعة اجمعا عليهما الباحثون والمفكرون بأنهما أحد أهم أسباب نجاح المنهج الذي دخل بواسطته الألوف ثم الملايين إلى دين الإسلام بغير سيف، بغير قتال، من دون خطب التهديد والوعيد.
تنزيه القصد عن الغرض كما أن التحقق بالعمل الصالح بما يدعون إليه أحد أبرز ملامح دعاة هذه المدرسة، لاسيما في شرق آسيا وفي شرق أفريقيا إلى المتأخرين منهم، كما أن تنزيه القصد عن الغرض والإخلاص لوجه الله عندما تتحول الدعوة إلى أغراض، وإلى أحزاب، تأتي الإشكالات الكثيرة الكبيرة.
هذه ملامح منهج الدعوة إلى الاسلام التي اتخذته هذه المدرسة مسلكا ودستوراً لها وبهذا فهي باقية ومستمرة ليومنا هذا تشعُ نورا .
مزايا ثقافية ودينية ويرجح الكثيرون ان ما تتميز به هذه المدرسة من مزايا ثقافية ودينية مستمدة من أنها تنبذ العنف والغلو وتقوم على الوسطية والاعتدال، مؤكدة بأنه بإمكانها أن تساهم بهذه المزايا في وضع حد لمشاكل المنطقة الفكرية ومواجهة دعوات التشدد والعنف التي تعانيها، وتقدم حلا مثاليا في مواجهة مظاهر الغلو والتطرف وتحقيق الأمن والاستقرار لحضرموت والجنوب وكل المنطقة التي تعاني من افرازات فكرية مريضة أفسدت الكثير من ملامح هذه البلاد الاصيلة. كما أن تجاهل هذه المدرسة وما تقوم به من دور في نشر الإسلام والدفاع عن من محاولات التشوية وحرف تفسير آياته وأحاديثه، يعده الكثيرون سبباً حقيقا في انتشار الغلو والتطرف مع انحسار منهج الوسيطة والاعتدال في الآونة الأخير .
دار المصطفى :
لقد شيدت العديد من المدارس والمراكز العلمية لمواصلة سير هذه المدرسة الدينية، وأبرز تلك المعالم والمدارس دار المصطفى للدراسات الإسلامية، وعلى الرغم من حداثة هذه الدار إلا أنه أصبح منبر إشعاع ذائع الصيت ويوجد بها كثير من الطلاب من جنسيات مختلفة من أنحاء العالم، وفي مقدمتها الدول العربية والإسلامية، كاليمن والسعودية والإمارات وسلطنة عمان وسوريا والأردن ومصر والسودان، وفي عدد من الدول الآسيوية والإفريقية والأوروبية وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، ويتبع دار المصطفى عدد من المدارس والأربطة، المنتشرة في الداخل والخارج، وقد أسسها طلاب تخرجوا منها مثل الفروع الموجودة في إندونيسيا وشرق إفريقيا، وتوجد أيضاً في مدينة تريم بحضرموت دار الزهراء وهي شبيهة بدار المصطفى، وهي خاصة بالنساء.
تأصيل مذهبي
ومن المراكز التعليمية النظامية والحديثة كلية الشريعة وتنتمي هذه الكلية إلى (جامعة الأحقاف)، وتدرس في مناهجها العقائد الأشعرية، ويؤصل كثير من أساتذتها للقضايا العقدية الفكرية مع التركيز على التأصيل المذهبي والرسوخ العلمي في العلوم الشرعية عامة، وتأصيل المسائل بطريقة فلسفية على طريقة المتكلمين خاصة، ويعد رباط تريم وهو من أقدم هذه المدارس وأعرقها، ويقع هذا الرباط في قلب مدينة تريم وافتتح في 14 محرم 1305هـ، وفيه طلاب من الداخل ومن شتى البلاد الإسلامية، مثل إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة والصومال والحبشة ودول الخليج .
أطروحات متزنة
تستطيع تريم ومن خلال جهود أبنائها خدمة الدين والأمة وتقديم نماذج فكرية وعقائدية للعالمين الإسلامي والعربي مستمدة من واقعية خطابها، واتزان أطروحاتها، واعتدال منطقها، لعلاج المشكلات المستعصية التي تواجهها الأمة الإسلامية حينها، والتي تدفع ضريبة تسويق الأفكار الضالة من منابر تنظر إلى تريم بعين العداء وتخطط لنسف مدرستها وفكرها المعتدل .
حجة علمية
إن الخطاب الذي تنتهجه تريم دوما خطاب وسطي ذو حجة علمية قريبة من الأفئدة، وتتفهمه العقول دون الحاجة للتكلف ولتصنع والشعبوية والتحريض، وهذا هو الزاد الذي غزت به هذه المدرسة أصقاع العالم فاتحة القلوب قبل الديار، مستحوذة على الأرواح قبل الأجساد، لتضفي على وجوه روادها نورا يتماهى مع لون ردائهم الملائكي الأبيض.
#حضرموت21