يعتقد كثيرون أن اتساع فضاء "الميديا" في بلاد العرب، التي تعاني من هزات عنيفة في الوقت الحاضر، ساهم في تعقيد المشهد العام، وفي خلط الألوان، ومهّد لظاهرة تداخل الوظائف وتنازع الصفات عند النخب العربية أو بالأصح عند "بعضها".
فعالِم الدين الملتحي أصبح سياسي، يخلط نبيذه بالنبيذ النواسي.. وعلى مواقع التواصل يتموضع الإعلامي في مكان الزعيم "الشعبوي"، يتفنن في اصطياد الأتباع والمتاجرة بهم كقاعدة من المغفلين.. ومحلل الفضائيات، متعهد أفراح ومصائب، على الشاشات يُستدعى ليسرد الأفكار الجاهزة على موجات الهوى السياسي. أما اليساري "المعتّق" بتعبيراته الغليظة التي سببت عسر هضم مزمن عند الإخوة المستمعين، فقد تخندق مع الإسلاموي ينحت من لحى المرشد والفقيه ملامح كارل ماركس الذي لا يراه بعض علماء الدين إلّا ك"ملحد" وليس كأحد أعظم الاقتصاديين في التاريخ. بينما المثقف "الهاي كلاس" أضاع جمهوره في الزحمة، فابتلعته "غُرزة" تتنفس من طقوس الحارات المنسية، ينفث إيحاءاته المبهمة مع دخان "الكوهيبا" المستورد أو مع "الكيف" الشعبي، لينسى هذا العالم المكتظ بالغباء والعنف.
هو زمن مكتئب للغاية ومن يبحث عن نصر فيه عليه أن يعمل بصبر دون أن يحاول ترويض الأشباح العائمة في فضاءات ميديا الإنحطاط.
إن سألتني عزيزي القارئ ما أخطر ظاهرة من أولئك؟ أرد عليك دون تفكير : الشيطان الثرثار مهما كان موقعه، فهو أخطر من قرينه الأخرس، لأنه، في مرحلة كهذه، مُلهِم تيوس السوشيال ميديا بأفكاره الملغمة التي يقتات عليها كل القطيع، ثم تتحول إلى احتفالية للإنتحار الجماعي، ليس على طريقة الإغواء الروحاني لاستباق نهاية العالم، ولكن باستدراج المغفلين إلى فخاخ أمراء الأوساط الإلكترونية المفتوحة على الرياح الصفراء. وتكون ضغينة، وتكون فتنة، ويصبح الحرف الناسف حزاماً من نوع آخر، يشجّ لحاء شجرة المجتمع ليسيل منها "دم الأخوين".
تعيش عدن بشكل أو بآخر في برزخ بين "اللادولتين".. دولة الوحدة التي تخوض سكرات الرحيل ودولة الجنوب التي تخضّها أوجاع الطريق، ولهذا يشهد المجتمع تدافع كبير.. تضاد وتجاذب، اختلاف وتوافق، تعصب وانفتاح، حماقة وعقل. وهي مسألة طبيعية إن ظلت في حدودها السلمية. وبالطبع ستستمر المحاولات الجادة لتوريط مدينة عدن بالذات في نوبة أخرى لـ "إخراجها عن النَّص" بعد أن نجت من كارثة 2015.
من زاوية مقابلة تبدو صنعاء "متبرزخة" هي الأخرى على طريق العودة إلى حالة "إمامة آل البيت" محتفظة بـ"اللوجو" الجمهوري، لتصدّر للعالم مولود مسخ وهجين بملامح ليست من نسج الخيال العلمي وإنما من إبداع الشعوذة البالستية المستوردة. وستصبح من عجائب الدنيا الغامضة عندما يشاركها في السلطة، بعد حين، تنظيم الإخوان المحلي، لتكتمل الخلطة السحرية وتقدم للعالم ترويكا "الإمام والزعيم والمرشد" في "صندوق بندورا" محكم الإغلاق، سيضيف للقاموس السياسي والحربي مقاربةً مختلفة حول نهاية التاريخ بنسخته اليمانية.
الحالة اليمنية إذن تحتاج ما يفوق خيال الحاكي، ولن تفيدها السلطة الشرعية إلا بما تؤديه أسود السيرك في إظهار الوقار والهيبة للـ"بلاتفورم" الذي يتمخطر عليه المدرب.
وفي هذه المشاهد المركّبة والمزدحمة بكل شيء يصبح الإعلام رسالة محفوفة بالمخاطر والمكاره، لا يؤديها بجدارة إلا إعلاميون مثقفون يحملون ضمائر حقيقية. خاصة وأن الحديث عن حرية الرأي في ظل غياب الدستور والقانون ومؤسسات الدولة قد يصبح خدعة كبرى، ووسيلة لضرب السلام الإجتماعي في حالة التوظيف الخطر للكلمة. فهناك تنظيمات ترى في تفكيك المجتمعات مهمة ضرورية لإعادة هيكلتها لكي يسهل وضعها في أنساق الزحف المقدس إلى الدولة الدينية. وهناك من يرى في الفتنة وقود متجدد لإطالة الحرب خدمةً لأصحاب المصلحة في استمرارها.
وعلى مستوى آخر يلمَح الرائي كثافة الإستثمار المنظّم في العصبيات المناطقية في الجنوب باعتبارها المساحة الرخوة، والضرب فيها إعلامياً يوجه رسالة للعالم بأن الجنوب لا يتحمل ذاته إلا تابعاً، وأن أهله لم يبلغوا مستوى النضج لبناء دولة مستقرة بعد أن بددوها بحماقتهم.
وتلك هي الحكاية...